الجمعة، 17 أبريل 2015

الإمام الشهيد عبد الحميد حمادوش

 علماء وشيوخ من زاوية ڤجال


الإمام الشهيد عبد الحميد حمادوش

                                        بقلم : الشيخ القريشي مدني رحمه الله


 
  كنت قد طلبت من الشيخ القريشي رحمه الله وهو في مرضه الذي توفي فيه أن يكتب عن علاقته بأستاذه الشيخ عبد الحميد .ورغم شدة المرض الذي جعله يفقد القدرة على مسك القلم إلا أنه كتب ما يقرب من عشر صفحات ،تحدث فيها  عن معرفته بأستاذه من البداية إلى أن افترقا في بداية  الثورة تحت عنوان : معرفتي بالأستاذ عبد الحميد حماد وش. يشرفنا أن ننقله كاملا  تكريما للشهيد عبد الحميد حماد وش وشهادة وفاء لتلميذه الشيخ القريشي ،وفيما يلي نص الحديث : عرفته وعمري لا يجاوز ثمانية  عشر عاما ،بعد أن حفظت القرآن على يدي الشيخ النواري بن الشيخ محمد عشاش -رحمهما الله -  في قريتي التي ولدت فيها ،وذات يوم ذهبنا مع القوم في تشييع جنازة أحد المواطنين من سكان القرية ليدفن في مقبرة قجال ،وحينما وصلنا المقبرة أقبل علينا معلم القرآن بالزاوية واسمه الشيخ الأخضر الحسناوي ومعه ثلاثة طلاب فأمَّ الناس لصلاة الجنازة ،وبعد الفراغ من الصلاة والدفن معا استشرت الطالب عيادي رابح : ما رأيك لو ذهبت معك إلى الزاوية وطلبت من أولاد الشيخ مواصلة تعليمي بالزاوية هل يقبلون طلبي أم لا ؟ أجابني على الفور: ممكن جدا حسب رأي .فذهبت معه إلى الزاوية ودخلت المسجد لأول مرة فوجدت عدة طلاب ومعهم الشيخ عبد الرحمن حمادوش نجل الشيخ الطيب حمادوش ،فسلمت على الجميع وجلست وإذا بالأستاذ عبد الحميد أقبل علينا فسلمت عليه هو الآخر فسألني عن نسبي وسكني فأجبته ثم قال :ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ وما تريد ؟
قلت له :رغبتي في التعلم في هذه الزاوية .فقال : هل تحفظ القرآن ؟ قلت : نعم أحفظه . فقال لي : أمكث الليلة عندنا وغدا سيأتي سيدي محمد وسأكون في عونك بحول الله وقوته . وفي صباح الغد بينما كنت أقرأ القرآن مع الطلبة ،جاء الأستاذ عبد الحميد وقال : هيا الشيخ محمد الصديق يناديك فذهبت معه إلى دار الضيوف فسلمت عليه وجلست بجانبه فقال لي : تريد التعلم حقيقة ! ولم لم يأتي أبوك معك . فقلت : أبي توفي وأنا رضيع ، وليس لي أحد يكفلني ويرعى مصالحي التعليمية واغرورقت عيناي بالدموع ، فتدخل الأستاذ عبد الحميد في الموضوع قائلا :سيدي محمد الصديق هذا النوع يستحق العناية لسببين : أولا ليتمه وثانيا لرغبته في التعلم ، ولو بقي هكذا لعاش محروما من العلم والمعرفة وضاع طول حياته وهذا حرام ! عند ذلك قال لي الشيخ محمد الصديق : اسمع يا ولد قبلنا طلبك ورضينا لك البقاء في الزاوية مع طلبتنا . ففرحت فرحا شديدا بهذا الحظ السعيد ، وغلب علي البكاء وسلمت على رأس الشيخين ،وحينما هممت بالانصراف تكلم الأستاذ عبد الحميد مخاطبا إياي : تمهل حتى آتي من البيت ، ثم جاء وسلم لي جبة وقميصا لأنه لاحظ أن ثيابي رثة وقال لي : خذ مني هذا اللباس .
رجعت إلى البيت فوجدت الوالدة في حيرة شديدة ،فقصصت عليها القصة ،ففرحت هي الأخرى وأوصتني بالأدب والسير الحسن مع شيوخ الزاوية . وفي الغد رجعت وباشرت تعلمي على يد الشيخ المختار -رحمه الله وسلم لي الأستاذ عبد الحميد متن الشيخ خليل، وهو أول من شرح لي قول المصنف في كتاب الصلاة : ( وهل يجوز القبض في النفل، أو إن طوَّل؟ وهل كراهته في الفرض للاعتماد ،أو خيفة اعتقاد وجوبه ،أو إظهار خشوع ؟ تأويلان .) درست في الزاوية سنة على يد الشيخ المختار رحمه الله ثم بعد ذلك ذهب الأستاذ عبد الحميد إلى تونس لاستكمال دراسته بالزيتونة .وتوقفت الدراسة بالزاوية ،فالتحقت أنا بمسجد المحطة (مسجدأبي ذر الغفاري رضي الله عنه ) بسطيف ودرست فيه سنتين على يد الشيخ البشير السحمدي ،والشيخ رابح مدور ، والشيخ محمد عادل رحمهم الله جميعا - . وفي السنة الثالثة جاءت حوادث (8 ماي 1945 ) الشهيرة وتوقفت الدراسة بمسجد المحطة أيضا ، ومكثت أنا في بيتي حوالي ثلاثة أشهر، وفي أول خريف سنة 1945 قدم إلى بيتي السيد رابح عيادي وقال لي : بعثني إليك سيدي محمد الصديق حمادوش  يريدك لأمر يهمك ، فذهبت معه إلى الزاوية ،ووصلت وقت الظهر فدخلت المسجد وصليت مع الطلبة ،وبعد الفراغ من الصلاة سلمت على الحاضرين ومن بينهم الأستاذ عبد الحميد والشيخ محمد الصديق ،ورحب بي الجميع ثم سألني الشيخ محمد الصديق : ماذا تفعل الآن ؟ قلت :لاشيء .قال :إذا أنا بعثت لك لتقوم بالمسجد  تعلم القرآن ،وتقوم بالأذان والصلوات الخمس لأن الشيخ الأخضر الحسناوي تقدم به السن وعجز فما عليك إلاّ أن تقوم بالمسجد والله في عون الجميع .فلبيت النداء ،وباشرت عملي كمعلم للقرآن الكريم بالتاريخ المذكور أعلاه . وشاءت الأقدار أن توفي الشيخ المختار رحمه الله الذي كان مدرسا بالزاوية ، ويؤم الناس في صلاة العيدين بقجال ،فخلفه في ذلك الأستاذ عبد الحميد حمادوش ؛ فتولى هو بنفسه صلاة العيدين وهو يتابع آناذك دراسته بتونس ،ورغم بعد المسافة فإنه لا يتخلف عن صلاة العيدين ،فيحضر ليلة العيد إلى بيته ،وفي الصباح يصلي بالناس صلاة العيد ،ويرجع في يومه إلى تونس ولا تفوته الدروس فيها أبدا ، وظل على هذا المنوال حتى تم دراسته ، وحصل على شهادته وعاد إلى وطنه عامر الوطاب حاملا الحكمة وفصل الخطاب ، وصار من الأعيان البارزين في الفقه و العربية والأدب . وكان ذا عقل وفضل وصلاح وتقوى وكان هدفه بعد رجوعه من تونس محاربة الجهل ونشر العلم والمعرفة بين الأجيال ، فجمع عدة طلاب من عدة نواحي وأنا واحد منهم ،وصار يعلمهم مجانا ، وتكفل بهم من حيث المبيت والمأكل والمشرب على نفقته الخاصة . وكان رحمه الله شديدا في التعليم حريصا على ما ينفع تلاميذه ، وكانت طريقته في التدريس ؛ يكلفنا بصرد الشارح ملاحظا علينا في ذلك اللحن والإعراب ، وذات يوم كان الدرس [ نعم وبئس وعسى وليس ]فصردت أنا الشارح فكسرت حرف العين من كلمة العير الواردة في الجملة الآتية [ نعم السير على بئس العير ]فقال لي: افتح عينك ، ورفعت رأسي وفتحت عيني ، فضحك هو لذلك فتنبهت لم وقع لي من الخطإ ، وأعدت قراء الجملة وفتحت العين من كلمة  العير فقال : الآن فتحت عينك . وسأله ذات يوم أحد التلاميذ وقد كان درسنا باب الاستثناء هل الاستثناء في قوله تعالى : " إلاَّ تفعلوه تكن في فتنة في الأرض وفسد كبير " متصل أو منقطع ؟ فطرق الأستاذ رأسه ثم رفعه قائلا : سؤالك هذا ذكرني بسؤال ألقاه أحد التلاميذ على شيخنا يوم كنت أدرس بالزيتونة وقد كنا ندرس علم التوحيد في أم البراهين ماذا تكون المنوبية من ربي ؟ وكانت المنوبية شجرة نبتت وحدها  في البادية ، وكان الناس يزورنها ويوقدون عندها الشموع وعود البخور . فقال له الشيخ : علاقة المنوبية بربها كعلاقتك أنت بربك . فقال التلميذ : أنا لا علاقة لي بربي فقال الشيخ : سبحان الله إنه خلقك وخلق كل شيء والمنوبية مخلوقة لله عز وجل ، إنها شجرة لا تنفع ولا تضر .!!
ثم قال الأستاذ :ونعود إلى سؤالك أيها الكريم ، ما هكذا يا سعد تورد الإبل ؟! وكان كثير الاستعمال لهذه العبارة حينما يخطئ أحد التلاميذ في الإجابة واعلم يا ولد أنَّ إن الشرطية قد تدغم في لا النافية فيظن من لا خبرة له بالعربية أنها إلاَّ الاستثنائية كما توهمت أنت وسألت عن الاستثناء في الآية التي ذكرتها ، وأجيبك أن الاستثناء هنا متصل بالجهل منقطع عن الفضل .وهكذا كانت دروسه لا تخلو من نكات عجيبة حتى لا ينسى التلاميذ تلك الدروس .
وكان رحمه الله ينصحنا ويحثنا على الاجتهاد ويرغبنا في طلب العلم وينشد البيت الآتي :
      
           العلم يبني بيوتا لا عماد لـها          والجهل يهدم بيوت العز والشرف 
 
وينشد أيضا:   
 
         الناس موتى وأهل العلم أحياء           والجاهلون لأهل العلم أعــداء    
          
وكان يقول : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم  وأحيانا يستشهد بالحديث الشريف : كن عالما أو كن متعلما ولاتكن الثالثة فتهلك .
وكان - رحمه الله كثير التألم إذا رأى بائسا فقيرا مهانا ، ويتمثل قول الشاعر : 
 
                لا تهـن الفقـير عــلك أن          تركع يوما والدهر قد رفــعه 
 
وكان إذا رأى ما لا يرضيه من قوم يعدهم  من الأصدقاء المخلصين ينشد قول الشاعر :
               وإخوانا حسبتهم دروعـــا           فكانوها ولكن للأعـــادي                   
            وخلتهم سهاما صـائبــات           فقاضوها ولكن في فــؤادي 
 
وهكذا كانت أخلاقه السمحاء مع تلاميذه ومع غيرهم من المواطنين تلين في موطن اللين وتقسو في موطن القسوة .

نعود إلى الحديث عن صلاة العيد لنشير إلى أن آخر صلاة صلاها بالناس هي صلاة  عيد الفطر في شهر ماي 1956 .ففي الوقت الذي كنا فيه ملتفين حول الأستاذ لسماع خطبة العيد فإذا بالعدو طوقنا بثلاث دبابات ومجنزرة وطائرة استكشافية تحلق فوق رؤوسنا . تنبه الأستاذ لذلك فقال : أيها الناس لا تتفرقوا على عاداتكم من هنا حتى لا يؤذينا العدو بل عودوا إلى المسجد فعاد الناس جميعا إلى المسجد ثم بعد ذلك خرجوا زرافات ووحدانا إلى بيوتهم وانتهى الأمر بسلام .
وكان رحمه الله   من السباقين بالإنضمام إلى ثورة نوفمبر 1954 وأظهر حينئذ نشاطا مكثفا في توعية المواطنين والتعريف بالأهداف التي ترمي إليها الثورة …… 
وكان رحمه الله كتوما للسر إلى أبعد الحدود ويقول لي : رغم أني كتوم للسر فإني بواح به إليك فأقول له : إنها الثقة ،فيقول حقا إنها الثقة ،ثم يوصيني قائلا : إن الثورة تنجح بالكتمان لا بإفشاء الأسرار ، والذي جعلني أثق بك يوم طلبت مني أن أشرح لك هذين البيتين من الشعر
 الأولى :      عش عزيزا أو مت وأنت كريما       بين طعن القنا وخفق البنـود
والثانية :      بلادي وإن جارت علي عزيزة       وقومي وإن شحوا علي كرام
وكان رحمه الله لم يخامره أدنى شك في نجاح الثورة ولا يتردد في عمله الثوري أبدا مهما كلفه الأمر من تضحيات ، وكان يقول لي: إن الثورة ستنتصر وإن الجزائر ستستقل لا محالة ولا أدري أتطول بي الحياة وأعيش حتى أرى الاستقلال أم استشهد ولا أرى الاستقلال .
وأنا نفسي ترددت في  الثورة والله يعلم وأقولها للتاريخ وتوبيخا للنفس اللوامة ؛ ترددت يوم خرج بنا الاستعمار من سجن العلمة في عدد يفوق ثلاثمائة سجين وذلك يوم 28 /80/1960 .وساقنا العدو إلى محطة القطار ، فركبنا القطار ولا أحد يعلم منا إلى أين ؟ وحين مر القطار ب" ميزون بلانش" الدار البيضاء حاليا ورأيت تلك القوة الجبارة ! فإذا أنا التفت عن يميني أرى مساحة شاسعة مخصصة للمدرعات تليها مساحة أخرى مخصصة للمجنزرات تليها أخرى مخصصة للسيارات من نوع "جيب تليها أخرى مخصصة للعربات من نوع " جيمسي " كما يسمونها ، تليها مساحة أخرى مخصصة للمدافع الثقيلة ، وإذا التفت عن يساري أرى مساحة شاسعة مخصصة للطائرات من نوع " بنانة " وأخرى للهيلوكبتر ،ثم أخرى لطائرات الاستكشاف ،ثم أخرى للطائرات المقنبلة ……وهنا ترددت في نفسي وقلت : هذا غرور ! فماذا تفعل بنادق الصيد والميطريات والقنابل اليدوية التي يحملها المجاهدون مع هذه القوة الفتاكة ؟ ولكن قدرة الله فوق كل قوة .وطال بنا السفر في ذلك اليوم وغلب علينا العطش من شدة الحر فصبرنا على مضض ولكن للصبر حدود .وحينما توقف بنا القطار في ميناء الجزائر العاصمة ونزلنا من القطار وأحاطت بنا عساكر العدو وكلابها قد تساوي عددها ، ونظرت إلى زرقة البحر والبواخر الراسية فيها قلت : هذا ذهاب إلى ما وراء البحر .وفي لحظة من الأمل استرجعت ثقتي بالله ، وقلت : الله أكبر على من طغى وتجبر ووجدتني أردد قول الله عز وجل :( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )  ثم قلت في نفسي   ويعلم الله بما قلته في تلك اللحظة هذه أول مرة جئت فيها إلى الجزائر عبدا أسيرا، وسأزورها مرة أخرى حرا طليقا وكان كذلك . ثم سار بنا العدو في عربات من نوع "جيمسي" إلى بني مسوس ووصلنا عند الغروب حيث قضينا فيه أربعة أيام بلياليها .
وفي يوم الأربعاء 02/09/1960 سار بنا العدو مبكرا إلى معتقل :تيفشُّون " ومن ذلك الوقت لا أعرف عن الأستاذ عبد الحميد شيئا ولا يعرف هو عني شيئا . وبعد أكثر من عام زارني أحد الأصدقاء في المعتقل وأخبرني بما جرى وما يجري في الساحة التي نشأت فيها ، ثم أخبرني بأن الأستاذ عبد الحميد قد استشهد وفاضت روحه إلى بارئها ، فأظلمت الدنيا بين عيني ، وسالت عبراتي على وجنتي ، ثم تنفست الصعداء وكفكفت دمعي المهراق ، وتذكرت قول الأستاذ عبد الحميد : إن الثورة ستنتصر وإن الجزائر ستستقل لا محالة ،ولا أدري أتطول بي الحياة وأعيش حتى أرى الاستقلال أم استشهد ولا أرى الاستقلال ، وفعلا استشهد ولم يرى الاستقلال .
وهنا انقطعت جميع الاتصالات بيني وبين الأستاذ وإلى الأبد وعما قريب ستلتقي أرواحنا في البرزخ  ،ثم بعد ذلك تلتقي أبداننا في جنة  الخلد إن شاء الله تعالى. فرحم الله أستاذي ومرب روحي رحمه واسعة وأسكنه فسيح جناته ، ورحم الله كل شهيد كشف صدره لرصاص الاستعمار غير مبال بالموت من أجل أن تعيش الجزائر مستقلة  .والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق