الجمعة، 17 أبريل 2015

مجلة منبر قجال / العدد الأول



مجلة منبر قجال / العدد الأول


















بمشيئة الله تعالى وتوفيقه يشرفنا-نحن الطاقم الجديد للجمعية الدينية للمسجد الجامع عبد الله بن الزبير"- أن يكون أول ما نسطره في سجل أعمالنا المباركة هو هذا المولود الإعلامي الذي سميناه على بركة الله" منبر قجال " والذي نتقدم به إلى كل إخوتنا في الدين والوطن ،نهنئهم من خلاله بهذا العدد الهائل من المناسبات الدينية والوطنية التي تزامنت وبداية شروعنا في الإعداد لبناء المسجد الجامع الجديد بقجال. إنها مناسبات كلها بركة وخير وأمل ؛في أجوائها نعيش الأيام العشر من شهر ذي الحجة والتي روى فيها  ابن عباس مرفوعا:" ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة قالوا :ولا الجهاد في سبيل الله ؟           قال :ولا الجهاد في سبيل الله ،إلاّ رجلا خرج بنفسه وماله ،ثم لم يرجع من ذلك بشيء         رواه البخاري.

ونعيش كذلك أيام الحج المباركة بكل ما تحمله لنا من معاني روحية وأفكار نعيش من خلالها التجرد لله في الفكر والعمل وبذل الجهد في سبيل الله ،والسعي من أجل التثبيت لقيم التوحيد العدل والأخوة والتسامح والسلام  والتلاقي والتعاون في النفوس والعلاقات بين الأفراد والجماعات والأمم .

ونعيش كذلك ذكرى يوم الشهيد الوطني متزامنة مع أيام عيد الأضحى المبارك حيث تتعانق المناسبتان في إبراز قيم التضحية والفداء ، التي وإن اختلفت في أشكالها فإنها اتحدت في المعاني التي نقرأها في روح إبراهيم عليه السلام وهو يواجه البلاء المبين في أ عز ما يملك في ولده الوحيد في حبه المتصل بعمق المشاعر والأحاسيس الإنسانية فينتصر في آخر جولة الصراع النفسي العنيف حب الله تعالى وامتثال أمره انتصارا للحق المطلق والوجود الحقيقي لأن كل ماخلا الله باطل .

كما نقرأ تلك المعاني  في روح الشهيد وهو يحمل روحه بين يديه يقدمها خالصة لله انتصارا للعقيدة  وتحريرا للوطن ودفعا للشر والظلم والبغي .

إنها المعاني التي نعيش من خلالها التجربة الواعية والمسؤولة فيما يمكن للإنسان أن يواجه من تحديات الواقع بكل ما فيه من إكراهات تحاول من خلالها قوى النفاق والشقاء زحزحة العامل في حقول البر والخير عن قناعاته والتشويش عليه وتثبيط عزائمه بأساليب التخويف مما يمكن أن يجلب له الأذى،أو التشكيك في جدوى مسعاه ،أو استفزاز مشاعره لدفعه إلى التهور في ردوده ومواقفه .ومجمل القول في هذا أن معاني التضحية في كل من موقف إبراهيم عليه السلام وتضحية الشهيد تشد من عزيمة الواقفين في خطوط الدفاع عن قيم الخير والنبل والشرف والعزة والكرامة في هذا البلد الطيب المبارك .
ولقد ضمَّنا العدد الأول من مطبوعة " منبر قجال" مواضيع تتصل بمناسبة بداية الشروع في انجاز المسجد الجامع الجديد والمرافق الملحقة به ؛ حيث يأتي موضوع :قجال عبر التاريخ للتعريف ولو بشكل مبسط بما مر بهذه المنطقة من


1








العصر الروماني إلى العصر الإسلامي إلى قدوم سيدي مسعود قدس الله سره وإنشاء الزاوية وما رافق ذلك من تحول قجال إلى قرية دينية مقدسة يزورها علماء أجلاء من أمثال سيدي عبد الرحمن الأخضري-رحمه الله- للتبرك والتعليم والانقطاع للتأليف. مما يستدعي النظر خاصة من طرف أولى الأمر ،للاهتمام بقرية قجال كقرية دينية مقدسة ينبغي المحافظة على قدسيتها وتجنيبها كل ما يسيء إلى طابعها الديني ،وإصلاح مقبرتها ومقام سيدي مسعود قدس الله سره- لتنظيم السياحة الدينية للزائرين والزائرات من المتعلقين بحب آل البيت وزيارة مقاماتهم والتبرك بها والدعاء عندها .

أما الموضوع الثاني فقد حاولنا من خلاله التعريف ببعض العلماء والشيوخ الذين أشرفوا على الزاوية وعلموا بها ،مما يؤكد الدور التاريخي الذي اضطلعت به زاوية قجال كمنارة للإشعاع الديني والمعرفي والإصلاح الاجتماعي ،قام به علماء أجلاء وشيوخ زهاد نذروا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله . كما لم يفت مطبوعة "منبر قجال " أن تخصص جزءا من صفحاتها " للحديث عن المصاب الجلل الذي تمثل في فقدنا للعلامة الشيخ الخير رحال رحمه الله .

                                                                      أسرة التحرير


              



قرية قجال عبر التاريخ

-قجال الاسم والموقع:

قجال أو إيكجان أو دار الهجرة و بيت الحكمة أو سيدي مسعود تلك هي الأسماء التاريخية التي أطلقت على قرية قجال . تقع جنوب شرق مدينة سطيف وتبعد  عنها بمسافة اثني عشر كيلومترا ويمر بها الطريق الوطني الرابط بين مدينة سطيف ومدينة باتنة،وإلى الجنوب منها يقع جبل يوسف الذي يبعد عنها بأكثر من عشر كيلومترات .

قجال اليوم اسم لبلدية تضم العديد من الدواوير والمشاتي وهي أيضا اسم لدائرة تضم بالإضافة إلى دوار قجال رأس الماء مركز كل من الدائرة والبلدية ، وأولاد صابر، وبن اذياب والدوار الكبير. تبلغ مساحتها 351 كم2 وتعداد سكانها حوالي 27529 نسمة حسب إحصائية سنة 1996 .

-قجال قرية تاريخية :
إن قرية قجال قديمة ظهرت أهميتها في عصر ما قبل التاريخ إذ ينسب إليها نموذج لأقدم إنسان في الجهة يدعى إنسان عين الحنش (1 ) وقيل أن اسم القرية


2







قجال يعود إلى العهد الروماني البيزنطي وهو مركب من قي وجان  ( Guy و   JEAN) (وقي) اسم الإمبراطور و(جان) ابن الإمبراطور, وتحول بعد ذلك إلى قجال.وقد أشار  العلامة ابن خلدون إلى الأصل الروماني لقرية قجال مدعما رأيه بما وجد في القرية من أنفاق وقبور  وأعمدة وأحواض حجرية وأواني فخارية  مازال بعضها إلى يومنا . ومما يلفت الانتباه , ويدعو إلى البحث ما يرويه المواطنون عن أجدادهم من وجود  القصر العظيم خلف الجامع كما يدعى أيضا قصر الزهو الذي كان من الاتساع والضخامة  بحيث يتحول أثناء حملات الغزو الخارجي إلي ملجإ يختبئ فيه سكان القرية مع مواشيهم وبهائمهم حماية لأنفسهم وأموالهم من السلب والنهب .كما يلاحظ وجود مجموعة من الآبار المبنية بصخور ضخمة على شكل البناء الروماني بعض هذه الآبار اندثر مثل بئر القصر , وبعضها مازال مثل بئر الزنقة , وبئر الجامع أضف إلى ذلك ما اكتشفه ويكتشفه المواطنون أثناء حفر أسس البناء أو ترع أو آبار من آثار ذات طابع إسلامي كالجرار والأواني وشهود قبور كتب عليها "لاإله إلا الله محمد رسول الله " ( 2 ) مما يؤكد أن منطقة قجال مرت بعهود تاريخية كبرى منها العهد الروماني البيزنطي والعهد الإسلامي الأول أي عهد الفتوحات .
ويقال أن قرية قجال كانت بلدة عامرة واسعة الأرجاء مما جعل سكانها الذين يقطنون في غربها لا يعرفون الذين يقطنون في شرقها. وتؤكد الروايات المنقولة عن المواطنين بما فيها رواية عن أجداد عائلة  حماد وش الذين توارثوا الإشراف على الزاوية عن جدهم الأكبر سيدي مسعود الإدريسي الحسني أن موقع المسجد الحالي هو بالأساس موقع لمسجد بناه الفاتحون الأوائل.                                                
ويقال أن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبيركان ممن شاركوا في بناء المسجد وترك أثر يده  على الجدار القبلي للمسجد وبقي هذا الأثر قائما إلى زمن قدوم سيدي مسعود إلى قجال .
ويفترض بعض المؤرخين أن قجال هي إيكجان القديمة التي انطلقت منها الدعوة لإقامة الدولة الفاطمية، وكانت تدعى أيضا دار الهجرة (3)                                  
-قدوم سيدي مسعود قدس الله سره إلى قجال :
إن أهم معلم لقرية قجال هو مقام سيدي مسعود الإدريسي طيب الله ثراه الذي له صبغة تقديسية عند سكان المنطقة ويرتبط ذكر سيدي مسعود بالقبور السبعة أو السبع الرقود -كما يسميهم المواطنون-الذين مازالت قبورهم ذات الشواهد المرتفعة معروفة عند جميع السكان، وقد اختلفت الروايات حول هذه القبور السبعة التي يمكن إجمالها في ثلاث روايات :أولاها أن هؤلاء السبع الرقود هم سبعة إخوة جاءوا من المغرب في زمن سيدي مسعود وناموا ليلتهم بقجال فلما أصبح الصباح وجدوا في حالة نوم أبدي فدفنوا في قبورهم  التي مازالت شاهدة عليهم ،من هنا شبه حالهم بحال أهل الكهف . أما الرواية الثانية فهم سبعة إخوة

3







من أحفاد سيدي مسعود قتلوا بالسم مع أختهم  من طرف أعداء لهم  والرواية الثالثة أنهم سبعة إخوة استشهدوا  معا في معركة من معارك الجهاد.ولكن هذه الرواية لا تحدد تاريخا ولا مكانا لهذه المعركة .                                 

وكان مقام سيدي مسعود مزارا مباركا يرجى الدعاء عند مرقده الشريف .وقد بلغت درجة التقديس لضريحه وأضرحة السبع الرقود أن المحاكم بمدينة سطيف كانت تشترط على الخصوم أداء القسم المطلوبة عندها . أما سيدي مسعود فهو حسني النسب , حيث تؤكد الوثائق الخاصة بسلسلة نسب عائلة حمادوش أن سيدي مسعود هو الحفيد الثاني عشر في ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام وفيما يلي سلسلة نسبه: (سيدي مسعود بن عبد الحميد بن عمر بن محمد بن إدريس بن داود بن إدريس الثاني بن إدريس الأول بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن الإمام علي عليه السلام(4)                                    

و يعود استيطان سيدي مسعود في قجال إلى القرن الخامس الهجري(5) بعد رحلة قادته من فاس إلى قرية قجال ولا ندري لماذا وقع اختياره على قرية قجال ؟ أ لأنها موقع من مواقع جيوش الفتح الإسلامي كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، أم لأنها دار الهجرة وبيت الحكمة ؟ أم لدعوة جاءته من أهل قجال الذين كان شأنهم شأن  أكثر أهل المغرب العربي الذين عرفوا بتعلقهم الشديد بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبركوا بهم وصهروهم وبوؤوهم من السيادة والولاية والرئاسة ما لم يجدوه في المشرق العربي؛ لأنهم عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصته وقد أمرالله تعالى بمودتهم ورعايتهم فقال سبحانه :" قل لاأسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " (سورة الشورىالآية 23) ،روى الترمذي في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدمهما أعظم من الآخر؛كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض،فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟".

ولأنهم سفينة النجاة روى الحاكم في المستدرك أن أبا ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ) .ولأن أهل المغرب العربي وجدوا في أهل البيت النبوي من الخصائص الفطرية والمميزات الإنسانية التي تمثلت قيم الإسلام واصطبغت بصبغته فكانوا بحق القدوة التي تطلب والأسوة التي تترجى .

ولهذا فإنه يُرجَّح أن قدوم سيدي مسعود إلى قرية قجال كان بدعوة من سكانها , فحقق لهم الرجاء وحل بينهم إماما وسيدا وجحة ومولى لهم . ويروي الأجداد عن قدوم سيدي مسعود أنه استقبل استقبال الأمل والرجاء من طرف سكان قجال عند مشته لخلف حيث أمر حرسه المرافق له بالتوقف عند الفيض  الذي أخذ منذ ذلك اليوم اسم ( فيض الحرس ) . 
4



 




وكان مما سجلته الذاكرة الشعبية ومازالت تتناقله الروايات الشفوية إلى اليوم أن سيدي مسعود قال دعوا ناقتي تسير فحيثما بركت  هناك مقامي ومدفني  وقد دفن –قدس الله سره –حيث بركت ناقته .                                        
 
-قجال منارة للإشعاع الديني والثقافي :
ومنذ قودم سيدي مسعود المبارك إلى قجال بدأت مرحلة جديدة في مسيرة قرية قجال التاريخية حيث عرفت فيما توالى من الأزمنة والقرون بالمسجد والزاوية التابعة له، التي أنشئت لغرض نشر العلوم الإسلامية واللغة العربية  وتدريس الفقه المالكي والإصلاح الاجتماعي .وقد نص على ذلك مخطوط عليه توقيع أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعا فري الإشبيلي أحد أعلام الفقه المالكي البارزين(6)
وتولى الإشراف على التعليم بالزاوية وإدارة الأملاك الوقفية  من الأراضي الفلاحية أحفاد سيدي مسعود من بعده بمراسيم وعقود موقعة من طرف الأمراء والعلماء  من أمثال ابن العربي , والإمام  الجليل أبي يحي زكرياء (7) والإمام المجاهد أبي العباس أحمد(8)وسيدي محمد بن يوسف الصغير، هذا الأخير الذي  توفي بقجال ودفن بمقبرة سيدي مسعود ومازال قبره معروفا إلى اليوم (9 )
 إن المتأمل في عقود الأراضي الفلاحية -  المحبوسة باسم سيدي مسعود أو أحفاده منذ القرن الخامس الهجري التي تمتد من " جبل مقرس  الذي يقع شمال غرب مدينة سطيف إلى ثنية فرماة (المسماة اليوم الشيخ العيفه  ) و انحدرت مع الوادي المتصل بها إلى وادي الشوك ثم انحدرت معه إلى رأس قلال ثم  مضت  إلى جهة جبل يوسف ثم إلى جبل براو(10) هذه  حدودها  الغربية  والجنوبية  أما  من جهة  الشمال فهي تمتد إلى بلاد بوغنجة  وأولاد بوروبة.  - يتبادر إلى ذهنه العديد من التساؤلات والقضايا  التي تحتاج إلى بحث واستقصاء ودراسة في الآثار المكتوبة والمجسمة والشفوية لتبيان العلاقة  بين الزاوية كمؤسسة دينية ثقافية تعليمية اجتماعية، والزاوية كمؤسسة اقتصادية تمارس  العمل الفلاحي وتنظبم الأوقاف وتوزيع العمل بينها وبين الشركاء والأجراء وحساب العائدات و إخراج الزكوات والأعشار. فكيف كانت تتم هذه الأعمال كلها ؟وما طبيعة المسيرين والمنفذين وعلاقتهم بشيخ الزاوية أو المقدم عليها ؟وما علاقة الزاوية كهيئة تعليمية اجتماعية بالمجتمع من جهة والدولة من جهة  ثانية ؟وما مدى استقلالية الزاوية عن الدولة في ذلك الزمان ؟     


5







 فما أحوجنا إلى اكتشاف هذا المخزون من أنظمة  مجتمعنا المختلفة في زمن تألقه لعله يسعف أولا هيئات الأوقاف في سعيها الحالي إلى استعادة تلك الأراضي والأملاك الوقفية ويسعف ثانيا المفكرين والباحثين الاجتماعيين في سعيهم إلى التأصيل من أجل بعث هياكل جديدة متطورة لمؤسساتنا الدينية والتعليمية والثقافية والاجتماعية في ظل المجتمع المدني الحديث، وما تفرضه من تنظيمات تشمل جميع النشاطات الإنسانية .                                                
-قجال مزار العلماء وملجأ الصالحين :
ونعود إلى قرية قجال  التي سجل لها التاريخ حضورا معنويا كبيرا حيث تشرفت باستقبال علماء أجلاء من أمثال سيدي عبد الرحمن الأخضري الذي عاش في القرن العاشر الهجري  فقد ذكر أنه كان يزورها للتدريس والتبرك بزيارة مقام سيدي مسعود، وقد كتب له أن يتوفاه الأجل في قرية قجال .ونقل جثمانه الطاهر  على أكتاف طلبته إلى قريته "بنطيوس"  حيث دفن هناك ( 11)
ومن العلماء العاملين الذي تشرفت قرية قجال المباركة بإقامتهم فيها والتدريس في مسجدها سيدي محمد الصغيربن يوسف الحملاوي .كما تشرفت أيضا بالشيخ أبي القاسم بن السعد الحامي الذي علم بزاوية قجال وقد ذكر أنه ترك بمكتبتها العديد من المخطوطات لم نجد منها إلا مخطوطا واحدا في شرح الأجرومية فرغ من إنجازه في نهاية السنة المتممة للقرن الثاني عشر الهجري . ومن الرجال الصالحين نذكر  الرجل الصالح الشريف النسب سيدي عمر قادري  الذي تعلم بقجال وكان صاحب علم وولاية ،
-قجال موقع حربي :
ويبدو أن قرية قجال موعودة بأحداث التاريخ فما من عهد إلا ولها فيه قصة . قرأت في سلسلة (REVUE AFRICAINE ) حديثا عن معركة كبرى وقعت بين جيش العرب بقيادة أحمد بن السخري بن أبي عكاز العلوي وبين جيش الترك بقيادة مراد باي, بضواحي قرية قجال يوم السبت(12) جمادىs الأولى سنة 1048هجري الموافق ل20 سبتمبر1638م. لقد حقق أحمد بن السخري انتصارا ساحقا على مراد باي الذي فر هاربا إلى الجزائر .   
-أهل قجال : التدين من غير غلو،والتصوف من غير ابتداع              
 وقد غلب على أهل قجال على مر السنين التدين الخالص والروحانية الطاهرة  التي  أشاعها وجود مقام سيدي مسعود قدس الله سره ,وقد اجتهد أحفاده من بعده في التزا م ذلك النهج القويم, في التدين من غير غلو, والتصوف من غير ابتداع, وكانت الطريقة المتبعة أشعريه المعتقد مالكية المذهب. (13) تستمد روحها من سيرة أهل البيت والصحابة المنتجبين رضوان الله تعالى عنهم  .و كان لهذه الطريقة الأثر البالغ في سيرة الشيوخ الذين عرفوا بالزهد الحقيقي الذي      لا 

6



يقعد بالإنسان عن العمل فكانوا يعتبرون ترك العمل من قبل الزاهد  منقصة له في زهده ومذلة له في دنياه كما كانوا أهل تربية وسلوك يفضلون التعليم  على التدوين , ويرون أن إعداد طالب إعدادا صالحا أولى من تصنيف كتاب أو تحرير  رسالة في فن من الفنون ويشارك زاوية قجال في هذا النهج , كثير من الزوايا العلمية التي كان لها دور أساسي وكبيرفي قيادة المقاومة الوطنية  ضد الوجود الفرنسي في الجزائر في القرن التاسع عشر ، فقد كان شيوخها قادة الثورات ومفجروها، وطلبتها جنود ميادين الوغى وفرسانها ومن هؤلاء  كان الشيخ سيدي الطاهر بن حماد وش .          

-شباب قجال :من طلب العلم إلى طلب الشهادة :

وإذا كانت مشاركة قجال في المقاومة الوطنية في القرن الماضي لا تكاد تذكر  إلا من بعض الأفراد ، نظرا للصراعات المحتدمة في ذلك الوقت بين الأعراش ،بين مؤيد للمقاومة  ومنخرط فيها، وبين مثبط للعزائم سائر في ركاب فرنسا فإن حضور قجال في الحركة الوطنية السياسية  في النصف الأول من هذا القرن، من خلال التنظيمات الحزبية والجمعيات كان قويا ومكثفا فلا يكاد يخلو بيت من بيوت قجال بجميع دواويره ومشاتيه من منتم إلى أحد الأحزاب السياسية  أو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما سعى الكثير من شباب المنطقة إلى طلب العلم في زاوية قجال التي كان يدرس بها العلامة الحجة في الفقه الشيخ المختار بن الشيخ رحمه الله ومن بعده الشيخ عبد الحميد حماد وش ، أو زاوية (بلكتفي) التي أنشأها الشيخ الطيب قرقور رحمه الله وكان يدرس فيها هو بنفسه ، ومنهم من ارتحل إلى طلب العلم  بالمدارس الحرة بسطيف أو مدارس جمعية العلماء بقسنطينة ومنهم من سافر إلى الخارج لإتمام دراسته بجامع الزيتونة في تونس أو جامع القرويين في المغرب .

لقد كان هؤلاء الشباب من طلبة العلم وعلى رأسهم الشهيد سيدي  عبد الحميد حمادوش هم زينة قجال التاريخ والعلم  وهم فخر أهلها .فلما جاءت الثورة المباركة ثورة أول نوفمبر 1954الخالدة ، كان أهل قجال في الموعد وشاركوا فيها عن بكرة أبيهم فماخلا بيت من بيوت قجال من شهيد أو مجاهد فرحم الله الشهداء رحمة واسعة ،وأسكنهم فسيح جنان الخلد وجعل ذكراهم حية في قلوبنا دائما ورحم الله من مات من المجاهدين وأدام عافية من بقي منهم على قيد الحياة .                                                             

- قجال بعد الاستقلال: أما بعد الاستقلال فقد كانت قرية قجال السباقة إلى تدشين أول مدرسة حرة للتعليم بالعربية في المنطقة كلها؛ وبمباركة الشيخ سيدي محمد الصديق حمادوش شرع الشيخ القرشي مدني في تعليمنا بالمسجد وكنا يومئذ بضعة تلاميذ نكون أول حلقة لطلب العلم في قجال بعد الاستقلال.ثم خلف الشيخ القريشي الشيخ الحسين أحد طلبة الشيخ عبد الحميد بن باديس.ثم كانت بعد   

7





ذلك الانطلاقة الحقيقية لمدرسة عبد الحميد حمادوش بقيادة اللجنة الدينية التي باركها الشيخ سيدي محمد الصديق جمادوش وترأسها سي البشير قزوط وبقية أعضائها كل من الشيخ الأستاذ القريشي مدني والشيخ لحسن بودرافه، وسي البشير فلاحي، وسي بوزيد هيشور والشيخ لخضر كسكاس الذي كان يسهر على إعداد الطعام للطلبة ؛هؤلاء كلهم  قضوا نحبهم فرحمهم الله وجزاهم الله عنا خير الجزاء ومنهم الشيخ محمد خلفي أمد الله  في عمره ومتعه بالصحة والعافية . وكذلك معلمنا وأستاذنا المميز الشيخ إسماعيل رزوق أطال الله عمره . فبفضل الله تعالى الذي قيض هؤلاء الرجال وغيرهم الذين لم نذكر أسماءهم كانت الانطلاقة العملاقة لمدرسة الشهيد عبد الحميد حمادوش ؛حيث تم افتتاحها في بداية السنة الدراسية 1963/1964 بحفل بهيج وعامر بالعلماء من أمثال الشيخ الجليل نعيم النعيمي ممثلا لوزارة الشؤون الدينية و الشيخ العوضي المصري الذي ألقي في الحفل خطبة عصماء مازال صدى كلماتها يتردد في آذاننا إلى اليوم والشيخ الإمام رابح بن مدور وجمع غفير من الموطنين . وكان عطاء هذه المدرسة المباركة وافرا ؛ فتخرج منها أجيال وأجيال بشهادات تعليمية وعلمية أمدت المدرسة الجزائرية الناشئة بمعلمين وأساتذة وفتحت الباب لطلبة شقوا طريقهم نحو الدراسات الجامعية في الداخل والخارج في مختلف التخصصات .وكفى هذه المدرسة فخرا واعتزازا أن لها في التعليم والإدارة والأمن والجيش والصحافة والقضاء والمصارف رجال ورجال كان لها الفضل في بداية تعليمهم وقد قيل الفضل للمبتدي وإن أحسن المقتدي . واليوم هاهي مدرسة قجال القرآنية تحاول أن تلتمس طريق الانطلاق من جديد بإرادة جديدة وعزم وتصميم أكيدين .وهذا مشروعها المتكامل تقدمه لكم أينما كنتم وفي كل المواقع ،وتهيب بكم أن تكونوا معا يدا بيد ليبقى قجالكم دائما في خدمة القرآن الكريم وعلومه المختلفة ولنجسد معا المقولة الخالدة        ( قجــال مـا يخـلى والعـلم مـا يـخـطـيه
 علماء وشيوخ من زاوية قجال
سيدي أبو عبد الله محمد بن إدريس
هو سيدي أبو عبد الله محمد بن سيدي إدريس ، الذي عاش في القرن العاشر الهجري  تولى مشيخة زاوية قجال من بعد والده الشيخ سيدي 

8


 


إدريس رحمه الله  حيث تم تنصيبه في أواسط شوال من سنة 931 هجري بعقد موقع من الإمام المجاهد القاضي أبي العباس أحمد بن محمد.(15)
 كان سيدي أبو عبد الله بن سيدي إدريس إذاك شابا ورث عن آبائه وأجداده  من الأخلاق أطهرها وأسماها ،ومن البصيرة والعقل ما جعله حصي أهل زمانه  ومن الخير والكرم ما جعله مضرب المثل وكان العابد العارف بالله تعالى المتبرك به ،وكان العالم المعلم الذي جعل من زاوية قجال مقصدا لطلبة العلم ومرجعا دينيا ، واجتماعيا ، يسعى إليها العالم والمتعلم ، والمصلح وطالب الصلح، والمتبرك و المتبرك به ، ومن خاصة الناس وعامتهم كان سيدي أبو عبد الله معاصرا للشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري العالم الجليل  الذي كان ينزل من حين إلى آخر بقجال لتقديم الدروس لطلبة العلم  أو لتحرير الرسائل العلمية، أولطلب  التبرك والراحة والابتراد في فصل الصيف بالقرب من مقام سيدي مسعود قدس الله سره .
سيدي عبد الرحمن الأخضري
هو من أبرز علماء الجزائر في القرن العاشر الهجري، لقد أطبقت شهرته الآفاق ودرّس في شتى حواضر العلم والمعرفة ،من بغداد إلى الأزهر بالقاهرة إلى الزيتونة بتونس .ألف في شتى المعارف العقلية و الشرعية والفقهية واللغوية والرياضية من أشهر مؤلفاته السلم المرونق في المنطق الذي ترجمه المستشرق الفرنسي لوسيان سنة1921م وقد عده من أعظم الكتب العالمية ، حيث قارنه بكتاب " حديقة الزهور الإغريقية" لمؤلفه كلود  لانسلوا .ومن كتبه أيضا منظومة الدرة البيضاء في الفرائض والحساب  والجوهر المكنون في علم البيان وكتاب في فقه العبادات،ومنظومة في التصوف. لقد كاد عالمنا الجليل سيدي عبد الرحمن الأخضري أن يبلغ بعمره الثقافي عمره الزمني حيث بلغت مؤلفاته الثلاثين ولم يكتب له من العمر إلا اثنان وثلاثون سنة.

9







كان سيدي عبد الرحمن الأخضري عالما عاملا وتقيا ورعا وعابدا مخبتا يقضي نهاره في التدريس فإذا ما أقبل الليل أوى إلى كهف يسمى "الخلوة "يقع بالقرب من مقام سيدي مسعود يتعبد ويتحنث ويصلي أغلب الليل وقبل الفجر يعود إلى المسجد ليستأنف نشاطه اليومي في التدريس أو التأليف . كان في شهر رمضان يختم القرآن الكريم المرة والمرتين بين الليل والنهار وكلما أتى على ختمة سجل علامة بجدار المحراب بإصبعه . روى لي الأستاذ الشريف رزوق أن الشهيد عبد الحميد ذكر لهم أنه شاهد تلك العلامات مع أثر الأصبع واضحة. وكان قد اتُّفِق علي المحافظة عليها ولكن أثناء تجديد بناء المسجد في الثلاثينيات غفلوا عن ذلك فهدم المحراب و ذهبت معه تلك الآثار.
وقد تناقل طلبة قجال خلفهم عن سالفهم أبيات شعرية قيل أنهاوجدت مكتوبة في كفن سيدي عبد الرحمن الأخضر.وهي كما يلي منقولة عن الأستاذ عبد المجيد حمادوش  الذي كتبها له الشيخ القريشي مدني رحمه الله بخط يده في كناشة خاصة : 
ويارب  فأكرمه بعفـوك    ليلـة       يروح  بها  ضيفا  لقبره  منـزلا
فأنت الذي أوجبت للضيف حرمة      وأكدت عليه بالمواساة عاجـلا
فهذا بضيف الخلق ،كيف بضيفـك      فأكرمه نزلا عند وقف الرواحلا
وحين انقضاض الناس للحي   راجعا      وبسط راح الكف للحد  عاجلا
بجـاه النبـي  الهـاشمـي  محمـد      عليه صلاة الـله  مني موصـلا
 وما زال أهل قجال إلى اليوم يتناقلون قصة طلبة الشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري الذين حملوا جثمان شيخهم على أكتافهم وتوجهوا به إلى موطنه بنطيوس بالقرب من بسكرة لدفنه هناك تنفيذا لوصيته .وعند وصولهم إلى الحامة أو بريكة على اختلاف في الرواية أصابهم إعياء شديد ،فطلب بعضهم بدفنه حيث وصل بهم المسير والرجوع إلى قجال فرفض الطلبة الذين كانوا يتميزون بحبهم الشديد لشيخهم وقرروا مواصلة الرحلة إلى نهايتها .فما الذي حدث بعد ذلك ؟ تقول القصة :أما الفريق الأول من الطلبة فقفلوا راجعين وأما الفريق الثاني فحملوا  الجثمان الطاهر وساروا فطوى الله تعالى لهم الأرض طيا حيث تمكنوا من تنفيذ وصية شيخهم ودفنه في بنطيوس والرجوع إلى قجال ؛فكان وصولهم إليه قبل وصول الفريق الأول .     
وخلاصة القول: إن تردد الشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري علي زاوية قجال ،لم يكن لولا هذه العلاقة الروحية والعلمية التي كانت تربطه بالمكان وأهله مما يؤكد على المكانة الكبيرة التي كانت تحظى بها هذه القرية الصغيرة بحجمها، الكبيرة بقداستها الروحية والعلمية عند العلماء  وسائر من تعلم فيها أو زارها أو عرف أهلها. وفي الأمثال العامية  التي كثيرا ما تتردد على ألسنة أهل قجال 


10








ما يؤكد ذلك يقول المثل: "قجال ما يخلى والعلم مايخطيه"  ويعكس بعض الحاقدين المثل فيقولون  "قجال ما يخلى والذل ما يخطيه   "
    
الشيخ سيدي محمد الصغير الحملاوي
سيدي محمد الصغير بن يوسف الحملاوي ،عالم جليل عاش بين نهاية القرن الثاني عشر والنصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجريين .كان معاصرا للشيخ سيدي محمد بن أحمد الذي استقدمه للإشراف على الزاوية وتسيير أمورها المالية ،وعائداتها من الأوقاف وكذلك التعليم بها .
اشتهر سيدي محمد الصغير بالورع والتقوى وصلاح النفس ونقاء السريرة لا يتهاون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وإصلاح ذات البين ، وتفقد أحوال الفقراء ورعاية الأيتام وتجاوزت رعايته الإنسان لتشمل الحيوان أيضا ؛ روي أنه شاهد رجلا يسوق دابته وقد حملَّها فوق طاقتها ،فنهاه عن ذلك ونصحه بالرأفة بها وتخفيف الأحمال عنها .فلم يعبأ الرجل بنصيحة الشيخ سيدي محمد الصغير واستمر في إرهاق دابته بالأحمال الثقيلة .فما كان من شيخنا إلا أن أمر طلبته بانتزاعها من صاحبها حتى يكف عن سلوكه القبيح هذا مع دابته التي تعينه على قضاء حوائجه ،وتأديبا لكل من تسول له نفسه المساس بالحيوانات الأهلية التي سخرها الله لخدمة الإنسان فذلل له ركوبها وحمل أمتعته عليها .
11





عاش الشيخ سيدي محمد الصغير بن يوسف بزاوية قجال حتى ألتحق بالرفيق الأعلى ودفن بمقبرة سيدي مسعود ، وقبره معروف مازال شيوخنا يزورونه يحدثوننا عنه وعن مناقبه وبركاته إلى اليوم .

لم يبق من آثار سيدي محمد الصغير- رحمه الله - سوى عقود لأملاك سيدي مسعود   الوقفية محررة بخط يده .




الشيخ سيدي الطاهر بن محمد حماد وش

- شيخ الزاوية ورجل الإصلاح :

 الشيخ سيدي الطاهر بن سيدي محمد -رحمه الله -كان وحيد والده   من الذكور. تربى على يد أبيه صغيرا ، وحفظ القرآن وأخذ مبادئ العلوم في زاويتهم ،ثم انتقل إلى زاوية الشيخ محمد الحداد فأخذ عن شيوخها ،ومنها شد الرحال إلى مستغانم التي كان له فيها أقارب وأبناء عمومة فقضى فيها عدة سنوات متتلمذا علىشيوخ زواياها .لقد كانت تلك عادة بيوتات القرآن والعلم والولاية يرسلون أبناءهم بعيدا عن الموطن من أجل التحصيل العلمي وتعويدهم علي السعي والترحال وتمكينهم من الاتصال بغيرهم والتعرف على من ليس من بيئتهم لصقل تجربتهم وإثراء معلوماتهم ومعالجة نقائصهم واستكمال شخصيتهم  المعنوية والسلوكية تأهيلا لهم لأداء دورهم الرسالي المستقبلي في التعليم والتوجيه .

عاش الشيخ سيدي الطاهر ظروف ما قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر على نهج آبائه وأجداده في الإشراف على الزاوية تعليما وتسيرا ، وفي القيام بدوره الاجتماعي المتمثل في قضاء حاجات الناس وتوثيق عقودهم وإ صلاح ذات بينهم .

كان للشيخ سيدي الطاهر مجلس خاص يتكون من أعيان المنطقة، وشيوخ العلم ، وطلبة الزاوية ، يجتمع دوريا وكلما دعت الضرورة للفصل في منازعة أو إصلاح ذات البين أو عقد نكاح أو  عقد هبة .. الخ  وقد ذكر في إحدى وثائقه أعضاء هذا المجلس وهم:

سيدي أحمد السخري البنشا- وسيدي محمد منه - وسيدي بلقاسم الزايدي - وسيدي سليمان الزايدي- وسيدي محمد الطاهر بن الصيد- وسي محمد الصيد -وسي احمدان ولد سي محمد بن الحاج الذويب -وسي محمد السعيد بن سي محمد بن احمدان - وسيدي أحمد المعاوي - وسيدي محمد بن عمر بن اسباع - وسيدي محمد المعمري بن المبارك بن عباس - وسيدي بلقاسم منه  .(16)

 
 12







الشيخ الطاهر رجل الجهاد والمقاومة :
كما عاش الشيخ الطاهر أيضا ظروف الاحتلال الفرنسي، وما تبعه من ممارسات تعسفية خبيثة حاقدة ضد كل مقومات الشعب الجزائري الدينية والثقافية والاجتماعية ،فكان أول مكره أن توجه إلى الزوايا لتجريدها من أوقافها التي تمثل بالنسبة إليها عصب الحياة  ومدد البقاء .                     
كان لزاوية قجال أوقاف كثيرة  نزعتها الإدارة الفرنسية من أصحابها الشرعيين رغم أنها أملاك وقفية لا يجوز المساس بها في كل القوانين والشرائع والأعراف البشرية ولكن فرنسا كانت تعتبر الجزائر غابة وحوش بشرية يجب أن تحكم بقانون الغاب.  ثم إن هذه الزوايا والجوامع والكتاتيب التي تسير بأموال الوقف هي التي ترفع عن الأمة غوائل الجهل وغشا وات الكفر، وهي التي تمدها بمقومات شخصيتها وعناصر هويتها وفيها يتكون رجال الأمة، ومنها يتخرج علماؤها ،و ينطلق قادة الجهاد وجنود الوغى. فهل ترضى فرنسا على هذه الزوايا والجوامع وتتركها لحالها وهي التي تعلن أن الجزائر  جزء من فرنسا وتستبطن من وراء كل مخططاتها ومشاريعها و ممارساتها في أرض الواقع طمس كل معالم الوجود العربي الإسلامي في الجزائر ؟ .                                               
لقد كتب للشيخ الطاهر حماد وش أن يعيش كل هذه الأحداث المأسوية لزاوية الأباء والأجداد ؛ وهي تسلب وتنهب و تجرد من أراضيها كأغلب زوايا الوطن أمام عينه، فكيف يهنأ له بال أو ترتاح له نفس أو يطيب له عيش ؟ لقد كان ذلك مما أوقد في نفسه روح الجهاد والمقاومة، لرد كيد هذا العدو اللدود ، الذي لم يكتف باحتلال الأرض ونهب خيرات البلاد وإنما يريد إبادة أهلها واقتلاع جذورهم منها نهائيا كما فعل سابقوهم الأوروبيون المهاجرون إلى أمريكا بسكانها الأصليين.
روى لي الشيخ سيدي عبد الرحمن ، عن أبيه الشيخ سيدي الطيب ،عن أبيه الشيخ سيدي الصديق رحمهم الله جميعا ،أن الشيخ سيدي الطاهر شارك في الجهاد ضد فرنسا وقد أصيبت رجله  أثناء معركة مع العدو قرب الجزائر العاصمة  ، وكانت جروحه دامية فعجز عن السير وبقي هناك بلا إسعاف حتى تعفن جرحه، وأصابه الدود، ولكن  العناية الإلهية أنقذته ؛ حيث عثر عليه أحد رفاق السلاح الناجين فقدم له الإسعافات اللازمة، وأودعه عند أحد سكان المنطقة  فلما برئ جرحه وعادت إليه عافيته ، رجع إلى بيته بقجال .
ظل الشيخ الطاهر بعد ذلك في بيته بقجال مختفيا عن أنظار  الاستعمار وأعوانه وجواسيسه وفي رواية عن سيدي عبد العزيز رحمه الله عن أجداده أيضا أن الشيخ الطاهر عندما رجع إلى بيته       اتخذ لنفسه بيتا خاصا به بعيدا عن أنظار 
13


 
 

العدو وأعوانه لا يخرج منه إلا في الليل أو في حالات الأمن في النهار. وبقي على تلك الحال إلى أن وافاه  الأجل  ودفن بمقبرة قجال وقد سألت الشيخ سيدي عبد الرحمن ،عن المعركة التي شارك فيها الشيخ الطاهر  عن اسمها،ومكانها وتاريخها وقيادتها ؟ فلم يذكر إلا أنها وقعت قرب العاصمة .
إن مشاركة الشيخ الطاهر في المقاومة يمكن أن تكون بصفة إفرادية ،شأنه في ذلك شأن  كثير من  إخوان الطريقة الرحمانية الذين كانت قناعتهم بالجهاد – الذي أصبح فرض عين على كل مسلم منذ وطئت أقدام الكفار أرض الوطن – تدفعهم إلى شد الرحال إلى ميادين القتال أين ما كانت. (انظر كتاب  محمد المقراني لبسام العسيلي ص146) .ومن المحتمل أن تكون مشاركته  مع الشيخ محمد بالحداد في ثورة سنة 1871م .بحكم انتمائه لطريقتها وتتلمذه على يدي شيوخها.
              









الشيخ سيدي  محمد الصديق
 العلامة الأديب المرابط في سبيل العلم والتعليم
محمد الصديق والنسب شهرا      بابن إدريس إن كنت سائــلا
ومسكنه قجال والمنشأ قل به      سلالة مجد نص عليها الأوائـل
                                                                         الشاعر : دعاس الريفي



14






الحديث عن الشيخ الصديق بن الشيخ الطاهرحمادوش  -رحمهما الله - هو حديث عن جيل من الجزائريين الذين حملهم القدر مسؤولية الجهاد الثقافي في ظروف غزو استعماري بغيض يريد محو أمة من الوجود وذلك باستئصال كل علاقة لها بماضيها بكل أركانه ومقوماته .فما أعظم ما حمل ذلك الجيل الذي وجد نفسه في مواجهة جبهات متعددة مفتوحة على مخاطر جسيمة ومهالك فضيعة و لا يمكن تأجيل المواجهة على جبهة دون الأخرى !لقد فتحت فرنسا الحرب على الجزائريين بالتقتيل والإبادة لمواجهة كل عمل مسلح ،وبالإذلال والقهر لكل مسالم أعزل وبالتجويع والتجهيل لكل مواطن شريف، وبالتهديم والدمار لكل معلم من معالم ديننا وحضارتنا وتاريخنا، وبالحصار لكل عمل تعليمي أو ديني.  إنها الحرب الشاملة التي فرضتها فرنسا على الجزائر والجزائريين .فما العمل وما الوسيلة ؟

لاشك أنه ما إن وعى الشيخ  الصديق ظروف البلاد الجديدة التي فرضتها السياسة  الاستعمارية حتى حدد لنفسه دوره في المواجهة ، وربما كان ذلك بتوجيه من أبيه أو بتوجيه ممن تتلمذ عليهم في زاوية قجال وفي قسنطينة وزاوية الشيخ الحداد وغيرها  ، خاصة شيخه سيدي محمد بن عبد الكريم  السلامي الجامع بين الحقيقة والشريعة الذي كان أحد أقطاب الطريقة الرحمانية المجاهدة والذي أجازه للتدريس والفتوى  (17)                                                                 

فلئن سلبت الأمة وطنها يجب أن لا تسلب دينها ولغتها ولذلك فإن عليه أن يتخندق في جبهة الجهاد الثقافي التعليمي الذي يحفظ للأمة قرآنها وشريعتها ولغتها تحصينا لها من الذوبان والاضمحلال إلى أن يأتي الله بثورة تعيد الوطن لأهله لقد انخرط والده في الجهاد المسلح ، وانجر على ذلك مصادرة الاستعمار  لأملاكه  الخاصة من الأرض .التي كانت تقدر بمائة وستين هكتارا ، لم يبق منها إلا أربعون هكتارا (18)                      
أما الأملاك الوقفية للزاوية التي سبق ذكرها فقد صودرت من قبل بموجب القانون الذي أصدرته السلطات الاستعمارية،والذي يقضي بتحويل كل الأملاك الوقفية في  الجزائر إلى  "الدومان". وبلغ الحصار الاستعماري مداه بالهيمنة على المساجد والزوايا التي ينبغي أن لاتتحرك إلا في الإطار الذي يخدم مصالح الاستعمار وأهدافه .لم ينظر الشيخ سيدي الصديق إلى الأمر الواقع من موقع اليائس الذي عليه  أن يلقي السلاح و ينكفئ على نفسه وإنما كان يسأل نفسه ماهو الممكن عمله في ظروف كهذه؟ من هنا كانت قناعته بالنهج الذي عليه أن يسلكه غير مبال بما يمكن أن يثار حوله من شبهات جراء مخالفته لنهج أبيه الذي لم يهادن الاستعمار.فكان أول عمل قام به ،أن سعى للحصول على ترخيص (19) من المجلس العلمي بسطيف الذي أقامته الحكومة الفرنسية بظاهر تنظيم وضبط العمل في المؤسسات الدينية والإشراف على المساجد والذي كان القصد منه


15






وضع يدها على المساجد والزوايا حتى لا يقدم فيها مالا ترضى عنه أو لا يخدم سياستها في البلاد .
واستأنفت الزاوية العتيدة رسالتها العلمية من جديد ، وباشر الشيخ سيدي الصديق العمل فيها بنفسه وكان عمره إذاك لا يتجاوز الثالثة والعشرين سنة  وتوافد على الزاوية طلبة العلم ، وحفظة القرآن الكريم من كل صوب وحدب ، كان ينفق على الطلبة من ماله الخاص ، فلم يكن يقبل من الناس الصدقات ولا أموال الزكاة ولا التبرعات ؛روى لي الشيخ محمد خلفي بن الشيخ بوزيد: أنه في نهاية أحد مواسم الحصاد جاء طالب من الطلبة للشيخ  الصديق  بحقه في العشور، فغضب الشيخ الصديق وقال للطالب هل طلبت منك الصدقة ؟ أو علمت أنني أحد  الأصناف الذين يستحقون  الزكاة ؟ثم أمره يرد ماأتى به من العشور ( العشر من زكاة الحبوب)
ولما توسعت نفقات الزاوية حاول الشيخ الصديق أن يستعيد بعضا من أراضيه المصادرة من قبل الإدارة الاستعمارية فراسل كلا من نائب عامل العمالة بسطيف ، والحاكم العام بالجزائر طالبا استعادة أرضه الفلاحية .
ومن خلال قراءة هاتين الرسالتين (20) نتبين أولا: أن الشيخ الصديق اشتغل بالإضافة إلى  التدريس في الزاوية قاضيا للشريعة الإسلامية في محكمة سطيف من سنة 1862م إلى سنة 1882م. وثانيا أن أرضه المصادرة كان بعضها بيد الفرنسيين والبعض الآخر بيد القايد. وثالثا أن عدد طلبة التعليم بالزاوية كان خمسة عشر طالبا ، وكثير من حفظة القرآن الكريم .
وقد أثمرت جهود الشيخ الصديق رحمه الله ، فتخرج علي يده ما يقرب من أربعين طالب علم (حسب رواية حفيده الشيخ عبد الرحمن ) نذكر منهم :
 الشيخ الطيب قرقور الملقب بالشيخ بن الكتفي - والشيخ المنور مليزي –والشيخ المختاربن الشيخ- والشيخ أحمد الشريف بن الشيخ   - والشيخ أحمد بن حافظ- والشيخ المختار بن حافظ- والشيخ عبد الرحمن رحماني - والشيخ بن الحامدي - والشيخ موسى بن مروشوالشيخ الميهوب بن إدريس – والشيخ الأخضر بن إدريس - وغيرهم وقد كان لهؤلاء الشيوخ بعد تخرجهم دور كبير في نشر الثقافة العربية والعلوم  الفقهية بين أبناء الوطن الذين حرموا طويلا من تعلم لغتهم ومعرفة دينهم.
فضائل الشيخ الصديق
تميز الشيخ الصديق -رحمه الله - بشخصية ذات ورع شديد، وتقى منقطع النظير، ورجاحة في العقل،وعمل دؤوب، وحذر من مضلات الفتن ومعرفة بالناس ،وزاده الله إلى ذلك غزارة في العلم ونورا في الفهم وزينة في الخلق ورأفة في القلب .




16






كان الشيخ الصديق معظما لشعائر الله ،ملتزما حدوده ، ملتزما بالسنة متورعا عن الشبهات روى أكثر من واحد أنه كان يرفض رفضا قاطعا ما ينتشر في بعض الزوايا من جلسات  الحضرة ، كما كان ينكر على الذين يعلنون في الناس  الكرمات –التي يكرم الله بها بعض عباده الصالحين- لاستمالة قلوب العامة  والبسطاء منهم . وكان يتقدم الفلاحين  الذين يكلفهم بفلاحة أرضه ويشاركهم في العمل فإذا حضرت الصلاة أوقف العمل وأقام الصلاة  تعظيما لعماد الدين وركنه الركين  التي من أقامها أقام الدين كله ومن تركها ترك الدين كله .                                                     
وكان شديد الحذر من الفتن، يفر منها ومن أ هلها فراره من الأسد الضاري . وقعت فتنة بين عرشين أشعلتها أيادي فرنسا الخفية، وحاولت أطراف من الفريقين أن تزج به في الصراع،  فرحل عن قرية قجال مع عائلته نائيا بنفسه عن الصراع .وتوجه إلى أرضه بأولاد صابر المسماة "بوغنجة" حيث نصب هناك خيمة وأقام بها، فلما انتهت الفتنة عاد إلى قجال .
وكان الشيخ الصديق رحمه الله وطيب ثراه عالما زاهدا يحمل بين جوانحه روحا مؤمنة قوية الصلة بالله تعالى عظيم الثقة به ،ونفسا شاعرية عميقة الإحساس بالعناية الإلهية واللطف الإلهي . اسمعه وهو يقول في قصيدة  له مستوحاة من أحاديث قدسية عنوانها :                                             
                             
جل الله ربي
يقول  جل   الله       ربي :           أنا المقصود لا تطلب سواي
تجدني أين  تطلبني    عبدي            وإن تطلب سواي  لا تجدني
تجدني في سواد الليل عبدي            قريبا  منك  فاطلبني  تجدني
تجدني في سجودك لي قريبا             كثير  الخير  فاطلبني   تجدني
تجدني حين تدعوني  مجيبا
أنا  الحنان  فاطلبني  تجدني
تجدني   غافرا  برا     رؤوفا            عظيم العفو فاطلبي   تجدني
تجدني  مستغاثا   بي ، مغييثا            أنا   الوهاب  فاطلبني تجدني
أتذكر   ليلة  ناديت    فيها            ألم   أسمعك   فاطلبني تجدني
وقد برزتني  بالذنب   جهرا            فلم أكشفك  فاطلبني  تجدني
وكم   قد رام  ضرك من عدو
فلم   أخذ لك  فاطلبني تجدني
              
إذا  اللهفان ناداني   كظيما             أقل   لبيك    فاطلبني تجدني
إذا المضطر  قال : ألا  تراني            نظرت  إليه    فاطلبني تجدني
وأية  عثرة  لك    لم  أقلها            فلم نضررك    فاطلبني تجدني




17






إذا عبدي  عصاني  لم يجدني           سريع  الأخذ ، فاطلبني تجدني

وتبرز هذه الروح الصوفية في شيخنا  أكثر في مأثوراته التي تفوح كلماتها بالمحبة الإلهية العميقة والإخلاص لله خطرة القلب ،وفلتة اللسان، ولحظ البصر وهو  يناجي ربه
سبحانك لا إله إلا أنت ،
ياحي  يا قيوم يارب
أسألك   باسمك  يا جليل ، يا جميل،  يا وكيل
يا كفيل، يا عزيز ، يا لطيف، يا مالك ،  يا منير
سبحانك لا إله إلا  أنت
ياحي   يا قيوم     يارب
يا من ذكره شرف للذاكرين ، يا من شكره قوت للشاكرين . يا من حمده  عز للحامدين يا من  طاعته نجاة  للمطيعين .يا من بابه  مفتوح  للطالبين . يا من  سبيله واضح للمذنبين يا من  آياته برهان  للناظرين  ،يا من  كتابه تذكرة للمؤمنين  يا من رزقه عميم للخلق أجمعين ،يا من رحمته قريب من المحسنين.
سبحانك لا إله إلا أنت
ياحي  يا قيوم    يارب
اللهم حط عنا أوزارنا و شفع فينا أخيارنا ، و كثر على الخير أعواننا، ولا تهتك بالبلاء أستارنا ، و لا تبد أخيارنا ، و لا تخل من ذكرك ديارنا  و اجعل ذكرك ثأرنا وشعارنا وكف عنا أشرارنا  و رخص أسعارنا، ولا تمنعنا في وقت الحاجة إليها أوطارنا وأقل بفضلك عثارنا،ومتع بالعافية أسماعنا وأبصارنا ، و لاتكشف أسرارنا  و اهلك بسيف انتقامك كفارنا ، و ارحم بفضلك صغارنا وكبارنا ، وأمن أرضنا وديارنا و بلغ من الدنيا والآخرة أوطارنا ،و اجعل في طاعتك سرنا وجهرنا واقطع بعبادتك وطاعتك أعمارنا (25).
ولم تؤثر هذه الروح الصوفية عند الشيخ سيدي الصديق رحمه الله سلبا على حياته فتصرفه عن أعماله الدنيوية ونشاطاته الاجتماعية ،أو تدفعه إلى التواكل والانعزال ،بل كان يمارس حياته العملية بنفسه دون الإخلال بنشاط على حساب الآخر ؛فهو المعلم في المسجد وهو الفلاح في الحقل مع الفلاحين وهو المتسوق في السوق لاقتناء حاجاته وهو الإنسان المتواضع للناس الساعي في قضاء حاجة المحتاج والتنفيس عن المكروب وإصلاح ذات البين . وقد حفظ عنه أحفاده قوله  :" كن مع الله صادقا مخلصا له الدين ، وكن مع عباده متواضعا مداريا."


 18








-الشيخ سيدي الصديق في ذمة الله:
حج الشيخ الصديق رفقة كل من تلميذيه الشيخ المختار بن الشيخ والشيخ عبد الرحمن رحماني  وقد ألم به أثناء أدائه لفريضة الحج مرض خطير، ظل معه حتى رجع إلى أرض الوطن. فلم يلبث طويلا حتى انتقل إلى رحمة الله تعالى .
كان لقب الشيخ سيدي الصديق  العائلي بن إدريس (26)  ونظرا لظروف خاصة غير لقبه بابن احمد وش نسبة إلى جده الرابع سيدي أحمد الذي فرت به أمه  إلى أخواله( عائلة  بزمورة)  خوفا عليه بعد أن تعرض والده وأعمامه إلى القتل بالسم  .فلقبه أخواله باحمدوش  تصغيرا لاسمه الحقيقي أحمد . فاشتغل عند أخواله  برعي الأغنام .فلما كبر واستقرت الأوضاع عاد إلى قجال ليستأنف المسيرة المباركة مسيرة العلم والتعليم والدعوة والإرشاد ،وكان على ما ذكر لنا أجدادنا رجلا صالحا مباركا مستجاب الدعاء .   
ولد الشيخ سيدي الصديق سنة 1834م (27) . وتوفي في اليوم الخامس من شهر سبتمبر سنة 1893م .وقد ترك من البنين ولدا واحدا هو الشيخ الطيب،وبنتين هما زينب ومسعودة .








الشيخ الدراجي الراشدي العيادي
هو الشيخ الدراجي الراشدي العيادي بن رابح بن الأطرش من أولاد رشيد بعين أزال ولد في مطلع القرن التاسع عشر ، نشأ في بيئة أصيلة 

19



 

متمسكة بدينها ولغتها تحفظ أبناءها القرآن الكريم منذ نعومة أظافرهم وتدفعهم إلى السفر والترحال من أجل طلب العلم والمعرفة .
انتقل الشيخ الدراجي العيادي مبكرا إلى زاوية الشيخ الحداد فحفظ القرآن وتفرغ لطلب العلوم الشرعية من فقه وأصول وتفسير ،فلم أنس فيه شيوخه الكفاءة العلمية زصلاح النفس والإخلاص في العمل كلفوه بالتدريس في الزاوية التي تعلم بها . عاد بعد ذلك إلى موطنه الأصلي بأولاد رشيد معلما ومرشدا وموجها لأبناء موطنه .ثم استقدمه الشيخ الصديق حمادوش إلى زاوية قجال للتدريس بها ، فاستقر بقجال وتزوج وكان يقيم بمسكن خلف المسجد الحالي ، ورزقه الله ذرية صالحة، استمروا على نهج والدهم الشيخ الدراجي من بعده، يتلون كتاب الله، ويتدارسون آياته، ويلتزمون أحكامه ، ويعلمون القرآن الكريم ، ويرشدون الناس، ويصلحون ذات بينهم ونظرا لذلك لقبوا ب " الطلبة "
كان الشيخ الدراجي عيادي شيخ علم وتعليم ورجل دعوة وإصلاح ؛يعلم بزاوية قجال طلبة العلم ، ويرافق الناس إلى الأسواق يعلمهم أحكام البيع والشراء  ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن الغش والربا حتى اشتهر أمره وذاع صيته في مدينة سطيف وما حولها ،واجتمع حوله الناس وأتوه من كل صوب وحدب .فضاق به مرابو الأسواق وسدنة الغش والمضاربة ذرعا، فشكوا أمره إلى القضاء الفرنسي فحاولوا إيقافه وهددته الشرطة الفرنسية عدة مرات فلم يأبه بهم ، وظل يواصل رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسواق وحيثما حل وارتحل حتى انتقل إلى رحمة الله تعالى .
الشيخ المختار بن الشيخ

هو الشيخ المختار بن الطيب بن عبد الوهاب بن المسعود الملقب بابن الشيخ والدته السيدة خديجة بنت الشيخ سيدي الطاهر بن حمادوش، أخت الشيخ الصديق وهو أحد تلامذة زاوية قجال المشهود له بالعلم . ولد بقرية معاوية بابن عزيز ،ولأسباب عائلية انتقل رفقة أمه إلى قجال حيث عاش طفولته وفترة من عمر الشباب  عند خاله الشيخ سيدي الصديق فأخذ عنه من علوم اللغة والفقه حتى تمكن منهما وملك زمام الكفاءة في التدريس ،انتقل بعد ذلك إلى تونس الخضراء .فمكث بها 


20






بضع سنوات متعلما ثم معلما حج  مرتين راجلا والثالثة راكبا، وعند مروره بمصر طاب له المقام بالأزهر  الشريف حاضرة العلم والعلماء ،حيث يمكنه إشباع فضوله العلمي والمعرفي .ولكن يبدو من الرواية  المنقولة عن بعض أحفاده أن شدة شيخنا الفاضل في الحق واندفاعه المعروف به في إظهار  الحقيقة مع أي كان لم تترك له الفرصة للبقاء طويلا بمصر حيث تعرض للمضايقة وقيل أنه تعرض للسجن بسبب انتقادات وجهها لشيخ من شيوخ الأزهر .
كان الشيخ المختار رحمه الله حجة في علوم الفقه واللغة ، وكانت له لقاءات ومحاورات ومساجلات مع علماء كبار مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس في قضايا فقهية نشر بعضها في الصحف مثل صحيفة النجاح والبصائر.
ومن أطرف ما يروى عنه في ذلك أن أحد المغرضين نقل للشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- وشاية مفادها أن الشيخ المختار يتعرض له في جلساته بالسوء ويدعوه بن"باليس"  فكتب إليه الشيخ بن باديس يستنكر منه ذلك .فرد عليه الشيخ المختار مبرئا ذمته من هذا القول الشنيع والافتراء المقيت ومن جملة ما كتب في رسالته له :هل يمكن أيها العلامة الجليل والشيخ الفاضل والمصلح الكبير لمن يصلي ويسلم على عباد الله الصالحين –وأنت منهم - في كل صلاة أن يصدر منه مثل القول السوء ؟      أنشأ زاوية في قرية معاوية وعلم بها سبع سنوات من 1911إاى 1917 . ولم يغادرها حتى  ترك فيها أثرا عظيما.تجلى في إقبال الشباب بصفة خاصة على طلب العلم ومعرفة الأحكام الشرعية وتعلم اللغة العربية التي حرموا منها طويلا .ونظرا للمكائد التي دبرها له أحد الحاقدين عليه ترك القرية التي ولد فيها ورحل إلى قجال واشترى بيتا برمادة  و لبث فيها سنوات عدة معلما ومصلحا اجتماعيا ،ثم  باع البيت ورحل هذه المرة إلى قرية تاجرة ليكون بالقرب من زاوية أخواله بقجال حيث واصل أداء دوره العلمي والشرعي بها حتى وافاه الأجل سنة 1944ودفن بمقبرة قجال رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا ببركته .   
21







الشيخ الطيب بن الكتفي
الشيخ الطيب قرقور المشهور باسم الشيخ بن الكتفي نسبة إلى جده، هوذلك العارف بالله الزاهد القوام الصوام ، طلب العلم في عدة زوايا منها زاوية الهـامل وزاوية الشيخ الحداد كما أخذ أيضا  عن الشيخ الصديق بن حملدوش وكان من طلبته البارزين العاملين الذين أدركوا دورهم وعرفوا واجبهم نحو أمتهم التي أراد لها الاستعمار الجهل، وحرمها من كل سبل المعرفة ليتمكن من سلبها كل مقوماتها الدينية والثقافية.
 خرج الشيخ الطيب بن الكتفي عازما كل العزم على العمل بعد أن أكرمه الله برؤية رآها هو وشيخه في نفس الليلة حيث كان الشيخ الصديق بن حماد وش هو الذي يؤم الطلبة في الصلاة وفي يوم من الأيام لم يحضر الشيخ لصلاة الفجر ،فتقدم الطالب الطيب بالكتفي من تلقاء نفسه ولم يكن متعودا على ذلك ، وأم المصلين. فلما حضر الشيخ الصديق سأل الطلبة عمن أمهم . فأشاروا إلى زميلهم الطالب الطيب بن الكتفي.فسأله :من قدمك لإمامة المصلين ؟  فقال له :ما دفعني إلى القيام بذلك إلا لأنني رأيت فيما يرى النائم أنك لم تحضرلصلاة الفجر فتقدمت أنا للصلاة فلما حضرت صلاة الفجر ولم تحضر. قلت هذه الرؤيا التي رأيتها فقمت للصلاة في الحال .فقال له الشيخ الصديق قدس الله سره : لقد رأيت نفس الرؤية  وإن تأويلها أن تخرج للإمامة والتعليم .فكانت تلك الرؤية هي إجازته من شيخه خرج الشيخ الطيب موليا وجهه شطر قريته  أم الحلي فأنشأ بها زاوية ، وجمع حوله عددا من حفظة القرآن الكريم وأخذ يعلمهم النحو والفقه ويزودهم بالمصنفات من عنده  وينفق عليهم من محصول أرضه كما ينفق على الفقراء والمساكين . اشتهرت زاويته وقصدها الطلبة من كل حدب وصوب .نقل بعد ذلك الشيخ الطيب بن الكتفي زاويته إلى بر ياقة ،وواصل رسالته العلمية فيها فتخرج

22







على يده العديد من طلبة العلم من أبرزهم الشيخ الخير رحال الذي شهد له شيخه بالعلم وكلفه بالتدريس في حياته واستمر بعده يدرس في الزاوية ويؤم الناس في صلاة العيد لسنوات عديدة، ومنهم أيضا الشيوخ : المسعود قرقور، ولحسن بود رافه ، ومحمد بن المبارك ، و العياشي مليزي، سي صالح عبد العزيز المفتي وغيرهم .لقد كان لزاوية الشيخ الطيب بن الكتفي فضل كبير على أهل المنطقة في تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم ،وتمكينهم من تعلم لغتهم العربية . ومعرفة أحكام دينهم الإسلامي الحنيف في العبادات والمعاملات وسائر أمور حياتهم .
توفي الشيخ الطيب بن الكتفي سنة 1936 وقد كتبت عنه في الزمن جريدة النجاح التي كانت تصدر في قسطينة وتحدثت عن مناقبه. فرحم الله تعالى مؤسس هذه الزاوية الشيخ الطيب بن الكتفي رحمة واسعة وبارك في ذريته.
الشيخ المنور مليزي
هو الشيخ المنور بن أحمد بن المسعود مليزي ولد سنة 1870 ، تعلم بزاوية بني يعلى ثم زاوية قجال وواصل تعليمه بجامع الزيتونة بتونس . كان الشيخ المنور من أبرز طلبة الشيخ الصديق العاملين الذين كان لهم شأن وأي شأن في التعليم بمنطقة وادي الذهب ،حيث أنشأ هناك زاوية للتعليم القرآني والفقه واللغة ،وتولى تعليم الطلبة بنفسه ،والإنفاق  عليهم من موارده الفلاحية الخاصة وتخرج على يده العديد من الطلبة. نذكر منهم الشيخ صالح عبد العزيز الملقب بالمفتي ، والشيخ عمار بوشول، والشيخين إبراهيم مليزي وبمزيد مليزي والشيخ لوصيف وغيرهم . 
كان الشيخ المنور مليزي من رجال الإصلاح، وكانت له صلة وطيدة بجمعية العلماء المسلمين يساعدهم ماديا ومعنويا ،ويقوم بالنشاطات الدعوية بنفسه؛ فيعظ الناس ويرشدهم في أفراحهم وأتراحهم ويعلم الناس أحكام دينهم ، ويعقد لهم عقود نكاحهم وبيعهم وكرائهم ويصلح ذات بينهم ،ويشاركهم في السراء والضراء ،فكان بذلك نعم الشيخ لنعم القوم ،ونعمت القدوة لنعم المقتدين ،حتى وافاه الأجل سنة 1941 .
تزوج الشيخ المنور مليزي ابنة الشيخ الطيب حماد وش السيدة رقية فأنجبت له الشيخ العياشي والشهيد عبد الرزاق رحمه الله والشيخ علي هذا الأخير هو أحد تلامذة  الشهيد عبد الحميد حمادوش .
ترك الشيخ المنور مكتبة عظيمة احتوت مخطوطات نادرة لم يسبق طبعها كان قد رآها الشهيد عبد الحميد حمادوش فأكد لأبنائه أهميتها ونصحهم بالمحافظة عليها .ولكنها تعرضت للحرق أثناء الثورة من طرف الاستعمار الفرنسي الذي أشعل النار في بيت الشيخ المنور فأتت على كل ما فيه

23







الشيخ سيدي الطيب حمادوش
الشيخ  سيدي الطيب بن حماد وش البركة ، المتبرك به  ولد سنة 1872م كان وحيد أبيه ، حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين .أخذ مبادئ النحو والفقه الأولى على يدي الشيخ الدراجي الراشدي العيادي(28)، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ الحداد بصدوق ليواصل تعلمه ،ولكن وفاة والده عجلت بعودته  فتولى بعده مسؤولية البيت المبارك  والزاوية العامرة وهو شاب يافع تجاوزالعقد الثاني من العمر بسنة ، وقف إلى جانبه الشيخ الدراجي عيادي بناء على وصية من والده ، فكان سنده القوي ، ومرجعه الأمين إلى أن اشتد عوده ، وتمكن من نفسه .
  كان الشيخ سيدي الطيب رحمه الله رجلاحازما فارسا لا يترك سلاحه قائما وقاعدا وكان جادا لا يعرف الخمول ولا الفتور ذكيا يتمتع بفراسة حادة مكنته من معرفة الرجال وتمييزالقريب من البعيد والحليف من الكائد وكشف مكائد الخصوم ومواجهتهم بما يبيتون له. كما جمع إلى جانب هذه الخصال الورع والتقوى والتزام الذكر وتلاوة القرآن .
لم يكن الشيخ الطيب رجل علم وتعليم كوالده ولكنه كان بورعه وتقواه رمزا روحيا لأهل المنطقة ولم تتوقف الزاوية في عهده ولكنها شهدت نوعا من الفتور ، نظرا لانشغال الشيخ الطيب بالعمل الفلاحي ، لسد حاجات الأسرة  النامية ،والإنفاق على الطلبة ،وإيواء عابري السبيل وإطعام السائلين والأيتام .ويبدو أن انتشار الفقر والمجاعة خاصة خلال العشرينات من القرن العشرين، وازدياد حاجة الناس إلى الطعام جعلت الشيخ الطيب يصرف جهده نوعا ما عن التركيز على التعليم بالزاوية ،ويوجه اهتمامه إلى العمل الزراعي للقيام بدوره الاجتماعي على خير وجه ،امتثالا لقوله تعالى :" فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة ، أو اطعام في يوم ذي مسغبة ؛ يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة " سورة البلد .
روى لي الشيخ محمد خلفي أطال الله عمره ، أن الشيخ الطيب كان يدخل عند أبيه الشيخ بوزيد  وهو يعلم القرآن بالزاوية فيقول له "إطعام الطعام ، إطعام الطعام ياسي بوزيد ".في إشارة منه إلى أن إطعام الطعام اليوم أولى ،لشدة حاجة الناس إليه .
 كانت للشيخ الطيب علاقات وطيدة مع كثير من الأعيان من مختلف العروش والدواور نذكرمنهم  الشيوخ  : الشيخ علي البارشي ،والشيخ الربيعي من الحمالات ،والشيخ الذباح خلفي ،والشيخ علي بن المداني، والشيخ الساسي 
24

 

غربي، والشيخ الحمادي حماني والشيخ الميلود حماني والشيوخ الإخوة البشير والمعاوي والصديق بن شطة ومن الفتاتشه الشيوخ سليمان وإسماعيل والسعيد ومن الكساكسة الشيخين ساعد والخوني عمارومن الزراقنة الشيخين الطاهر والمبروك وغيرهم . وكان منهم من يأخذ عنه ما يسمى بالميثاق وهو في شكله ، عبارة عن أوراد يومية تتضمن تلاوة آيات من الذكر الحكيم ،وأدعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو مستوحاة منها وفي غايته هو عهد يقطعه المريد على نفسه بأن يرابط من أجل خدمة الإسلام بعلمه ، أو ماله ،أو جهده ،أو روحه إذا دعا داعي الجهاد . وكان من أقرب المقربين للشيخ سيدي الطيب الشيخ بوزبد خلفي- رحمه الله - الذي قدّم للزاوية كل ما يملك واستقر بها يعلم القرآن ويقوم على شؤون الطلبة والمسجد وظل وفيا للزاوية والعائلة حتى توفي وعلى ذلك وصى ابنه الشيخ محمد خلفي الذي لم يقصر يوما في مد يد العون للمسجد وطلبة الزاوية إلى يوم الناس .وكان من أبرز مساعدي الشيخ سيدي الطيب في أعماله المختلفة الشيخ حمو صفيح –رحمه الله -الذي كان يرافقه في الحل والترحال .يدير أعماله الفلاحيه ،وشؤونه المالية ، وينوب عنه في إمضاء عقوده  فلم يعرف أحد وضع فيه  الشيخ سيدي الطيب ثقته مثل حمو صفيح .
انتقل الشيخ سيدي الطيب إلى رحمة ربه يوم الاثنين 29 ماي سنة 1933م أثناء أدائه لصلاة المغرب فخلفه من بعده ستة رجال أكبرهم سيدي محمد الصديق الذي تولى الأمر من بعده ، وأصغرهم الشهيد عبد الحميد الذي كان عمره إذاك أربع عشرة سنة .وبينهما سيدي عبد العزيز وسيدي عبد الله ، وسيدي عبد الرحمن وسيدي الطاهر ، وترك من الإناث خمس نساء هن : الحاجة ، وحضرية ،وفاطمة ،ورقية ،وأم كلثوم رحمهم الله جميعا .                       
                    
الإمام الشهيد عبد الحميد حمادوش
                                        بقلم : الشيخ القريشي مدني رحمه الله

25







 كنت قد طلبت من الشيخ القريشي رحمه الله وهو في مرضه الذي توفي فيه أن يكتب عن علاقته بأستاذه الشيخ عبد الحميد .ورغم شدة المرض الذي جعله يفقد القدرة على مسك القلم إلا أنه كتب ما يقرب من عشر صفحات ،تحدث فيها  عن معرفته بأستاذه من البداية إلى أن افترقا في بداية  الثورة تحت عنوان : معرفتي بالأستاذ عبد الحميد حماد وش. يشرفنا أن ننقله كاملا  تكريما للشهيد عبد الحميد حماد وش وشهادة وفاء لتلميذه الشيخ القريشي ،وفيما يلي نص الحديث : عرفته وعمري لا يجاوز ثمانية  عشر عاما ،بعد أن حفظت القرآن على يدي الشيخ النواري بن الشيخ محمد عشاش -رحمهما الله -  في قريتي التي ولدت فيها ،وذات يوم ذهبنا مع القوم في تشييع جنازة أحد المواطنين من سكان القرية ليدفن في مقبرة قجال ،وحينما وصلنا المقبرة أقبل علينا معلم القرآن بالزاوية واسمه الشيخ الأخضر الحسناوي ومعه ثلاثة طلاب فأمَّ الناس لصلاة الجنازة ،وبعد الفراغ من الصلاة والدفن معا استشرت الطالب عيادي رابح : ما رأيك لو ذهبت معك إلى الزاوية وطلبت من أولاد الشيخ مواصلة تعليمي بالزاوية هل يقبلون طلبي أم لا ؟ أجابني على الفور: ممكن جدا حسب رأي .فذهبت معه إلى الزاوية ودخلت المسجد لأول مرة فوجدت عدة طلاب ومعهم الشيخ عبد الرحمن حمادوش نجل الشيخ الطيب حمادوش ،فسلمت على الجميع وجلست وإذا بالأستاذ عبد الحميد أقبل علينا فسلمت عليه هو الآخر فسألني عن نسبي وسكني فأجبته ثم قال :ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ وما تريد ؟
قلت له :رغبتي في التعلم في هذه الزاوية .فقال : هل تحفظ القرآن ؟ قلت : نعم أحفظه . فقال لي : أمكث الليلة عندنا وغدا سيأتي سيدي محمد وسأكون في عونك بحول الله وقوته . وفي صباح الغد بينما كنت أقرأ القرآن مع الطلبة ،جاء الأستاذ عبد الحميد وقال : هيا الشيخ محمد الصديق يناديك فذهبت معه إلى دار الضيوف فسلمت عليه وجلست بجانبه فقال لي : تريد التعلم حقيقة ! ولم لم يأتي أبوك معك . فقلت : أبي توفي وأنا رضيع ، وليس لي أحد يكفلني ويرعى مصالحي التعليمية واغرورقت عيناي بالدموع ، فتدخل الأستاذ عبد الحميد في الموضوع قائلا :سيدي محمد الصديق هذا النوع يستحق العناية لسببين : أولا ليتمه وثانيا لرغبته في التعلم ، ولو بقي هكذا لعاش محروما من العلم والمعرفة وضاع طول حياته وهذا حرام ! عند ذلك قال لي الشيخ محمد الصديق : اسمع يا ولد قبلنا طلبك ورضينا لك البقاء في الزاوية مع طلبتنا . ففرحت فرحا شديدا بهذا الحظ السعيد ، وغلب علي البكاء وسلمت على رأس الشيخين ،وحينما هممت بالانصراف تكلم الأستاذ عبد الحميد مخاطبا إياي : تمهل حتى آتي من البيت ، ثم جاء وسلم لي جبة وقميصا لأنه لاحظ أن ثيابي رثة وقال لي : خذ مني هذا اللباس .
رجعت إلى البيت فوجدت الوالدة في حيرة شديدة ،فقصصت عليها القصة ،ففرحت هي الأخرى وأوصتني بالأدب والسير الحسن مع شيوخ الزاوية . وفي 
26

 

الغد رجعت وباشرت تعلمي على يد الشيخ المختار -رحمه الله وسلم لي الأستاذ عبد الحميد متن الشيخ خليل، وهو أول من شرح لي قول المصنف في كتاب الصلاة : ( وهل يجوز القبض في النفل، أو إن طوَّل؟ وهل كراهته في الفرض للاعتماد ،أو خيفة اعتقاد وجوبه ،أو إظهار خشوع ؟ تأويلان .)
درست في الزاوية سنة على يد الشيخ المختار رحمه الله ثم بعد ذلك ذهب الأستاذ عبد الحميد إلى تونس لاستكمال دراسته بالزيتونة .وتوقفت الدراسة بالزاوية ،فالتحقت أنا بمسجد المحطة (مسجدأبي ذر الغفاري رضي الله عنه ) بسطيف ودرست فيه سنتين على يد الشيخ البشير السحمدي ،والشيخ رابح مدور ، والشيخ محمد عادل رحمهم الله جميعا - . وفي السنة الثالثة جاءت حوادث (8 ماي 1945 ) الشهيرة وتوقفت الدراسة بمسجد المحطة أيضا ، ومكثت أنا في بيتي حوالي ثلاثة أشهر، وفي أول خريف سنة 1945 قدم إلى بيتي السيد رابح عيادي وقال لي : بعثني إليك سيدي محمد الصديق حمادوش  يريدك لأمر يهمك ، فذهبت معه إلى الزاوية ،ووصلت وقت الظهر فدخلت المسجد وصليت مع الطلبة ،وبعد الفراغ من الصلاة سلمت على الحاضرين ومن بينهم الأستاذ عبد الحميد والشيخ محمد الصديق ،ورحب بي الجميع ثم سألني الشيخ محمد الصديق : ماذا تفعل الآن ؟ قلت :لاشيء .قال :إذا أنا بعثت لك لتقوم بالمسجد  تعلم القرآن ،وتقوم بالأذان والصلوات الخمس لأن الشيخ الأخضر الحسناوي تقدم به السن وعجز فما عليك إلاّ أن تقوم بالمسجد والله في عون الجميع .فلبيت النداء ،وباشرت عملي كمعلم للقرآن الكريم بالتاريخ المذكور أعلاه . وشاءت الأقدار أن توفي الشيخ المختار رحمه الله الذي كان مدرسا بالزاوية ، ويؤم الناس في صلاة العيدين بقجال ،فخلفه في ذلك الأستاذ عبد الحميد حمادوش ؛ فتولى هو بنفسه صلاة العيدين وهو يتابع آناذك دراسته بتونس ،ورغم بعد المسافة فإنه لا يتخلف عن صلاة العيدين ،فيحضر ليلة العيد إلى بيته ،وفي الصباح يصلي بالناس صلاة العيد ،ويرجع في يومه إلى تونس ولا تفوته الدروس فيها أبدا ، وظل على هذا المنوال حتى تم دراسته ، وحصل على شهادته وعاد إلى وطنه عامر الوطاب حاملا الحكمة وفصل الخطاب ، وصار من الأعيان البارزين في الفقه و العربية والأدب . وكان ذا عقل وفضل وصلاح وتقوى وكان هدفه بعد رجوعه من تونس محاربة الجهل ونشر العلم والمعرفة بين الأجيال ، فجمع عدة طلاب من عدة نواحي وأنا واحد منهم ،وصار يعلمهم مجانا ، وتكفل بهم من حيث المبيت والمأكل والمشرب على نفقته الخاصة . وكان رحمه الله شديدا في التعليم حريصا على ما ينفع تلاميذه ، وكانت طريقته في التدريس ؛ يكلفنا بصرد الشارح ملاحظا علينا في ذلك اللحن والإعراب ، وذات يوم كان الدرس [ نعم وبئس وعسى وليس ]فصردت أنا الشارح فكسرت حرف العين من كلمة العير الواردة في الجملة الآتية [ نعم السير على بئس العير ]فقال لي: افتح عينك ، 
27

 

ورفعت رأسي وفتحت عيني ، فضحك هو لذلك فتنبهت لم وقع لي من الخطإ ، وأعدت قراء الجملة وفتحت العين من كلمة  العير فقال : الآن فتحت عينك . وسأله ذات يوم أحد التلاميذ وقد كان درسنا باب الاستثناء هل الاستثناء في قوله تعالى : " إلاَّ تفعلوه تكن في فتنة في الأرض وفسد كبير " متصل أو منقطع ؟ فطرق الأستاذ رأسه ثم رفعه قائلا : سؤالك هذا ذكرني بسؤال ألقاه أحد التلاميذ على شيخنا يوم كنت أدرس بالزيتونة وقد كنا ندرس علم التوحيد في أم البراهين ماذا تكون المنوبية من ربي ؟ وكانت المنوبية شجرة نبتت وحدها  في البادية ، وكان الناس يزورنها ويوقدون عندها الشموع وعود البخور . فقال له الشيخ : علاقة المنوبية بربها كعلاقتك أنت بربك . فقال التلميذ : أنا لا علاقة لي بربي فقال الشيخ : سبحان الله إنه خلقك وخلق كل شيء والمنوبية مخلوقة لله عز وجل ، إنها شجرة لا تنفع ولا تضر .!!
ثم قال الأستاذ :ونعود إلى سؤالك أيها الكريم ، ما هكذا يا سعد تورد الإبل ؟! وكان كثير الاستعمال لهذه العبارة حينما يخطئ أحد التلاميذ في الإجابة واعلم يا ولد أنَّ إن الشرطية قد تدغم في لا النافية فيظن من لا خبرة له بالعربية أنها إلاَّ الاستثنائية كما توهمت أنت وسألت عن الاستثناء في الآية التي ذكرتها ، وأجيبك أن الاستثناء هنا متصل بالجهل منقطع عن الفضل .وهكذا كانت دروسه لا تخلو من نكات عجيبة حتى لا ينسى التلاميذ تلك الدروس .
وكان رحمه الله ينصحنا ويحثنا على الاجتهاد ويرغبنا في طلب العلم وينشد البيت الآتي :
                 العلم يبني بيوتا لا عماد لـها          والجهل يهدم بيوت العز والشرف
وينشد أيضا:   الناس موتى وأهل العلم أحياء           والجاهلون لأهل العلم أعــداء              
وكان يقول : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم  وأحيانا يستشهد بالحديث الشريف : كن عالما أو كن متعلما ولاتكن الثالثة فتهلك .
وكان - رحمه الله كثير التألم إذا رأى بائسا فقيرا مهانا ، ويتمثل قول الشاعر :
                لا تهـن الفقـير عــلك أن          تركع يوما والدهر قد رفــعه
وكان إذا رأى ما لا يرضيه من قوم يعدهم  من الأصدقاء المخلصين ينشد قول الشاعر :
               وإخوانا حسبتهم دروعـــا           فكانوها ولكن للأعـــادي                   
               وخلتهم سهاما صـائبــات           فقاضوها ولكن في فــؤادي
وهكذا كانت أخلاقه السمحاء مع تلاميذه ومع غيرهم من المواطنين تلين في موطن اللين وتقسو في موطن القسوة .
28








نعود إلى الحديث عن صلاة العيد لنشير إلى أن آخر صلاة صلاها بالناس هي صلاة  عيد الفطر في شهر ماي 1956 .ففي الوقت الذي كنا فيه ملتفين حول الأستاذ لسماع خطبة العيد فإذا بالعدو طوقنا بثلاث دبابات ومجنزرة وطائرة استكشافية تحلق فوق رؤوسنا . تنبه الأستاذ لذلك فقال : أيها الناس لا تتفرقوا على عاداتكم من هنا حتى لا يؤذينا العدو بل عودوا إلى المسجد فعاد الناس جميعا إلى المسجد ثم بعد ذلك خرجوا زرافات ووحدانا إلى بيوتهم وانتهى الأمر بسلام .
وكان رحمه الله   من السباقين بالإنضمام إلى ثورة نوفمبر 1954 وأظهر حينئذ نشاطا مكثفا في توعية المواطنين والتعريف بالأهداف التي ترمي إليها الثورة …… 
وكان رحمه الله كتوما للسر إلى أبعد الحدود ويقول لي : رغم أني كتوم للسر فإني بواح به إليك فأقول له : إنها الثقة ،فيقول حقا إنها الثقة ،ثم يوصيني قائلا : إن الثورة تنجح بالكتمان لا بإفشاء الأسرار ، والذي جعلني أثق بك يوم طلبت مني أن أشرح لك هذين البيتين من الشعر
 الأولى :      عش عزيزا أو مت وأنت كريما       بين طعن القنا وخفق البنـود
والثانية :      بلادي وإن جارت علي عزيزة       وقومي وإن شحوا علي كرام
وكان رحمه الله لم يخامره أدنى شك في نجاح الثورة ولا يتردد في عمله الثوري أبدا مهما كلفه الأمر من تضحيات ، وكان يقول لي: إن الثورة ستنتصر وإن الجزائر ستستقل لا محالة ولا أدري أتطول بي الحياة وأعيش حتى أرى الاستقلال أم استشهد ولا أرى الاستقلال .
وأنا نفسي ترددت في  الثورة والله يعلم وأقولها للتاريخ وتوبيخا للنفس اللوامة ؛ ترددت يوم خرج بنا الاستعمار من سجن العلمة في عدد يفوق ثلاثمائة سجين وذلك يوم 28 /80/1960 .وساقنا العدو إلى محطة القطار ، فركبنا القطار ولا أحد يعلم منا إلى أين ؟ وحين مر القطار ب" ميزون بلانش" الدار البيضاء حاليا ورأيت تلك القوة الجبارة ! فإذا أنا التفت عن يميني أرى مساحة شاسعة مخصصة للمدرعات تليها مساحة أخرى مخصصة للمجنزرات تليها أخرى مخصصة للسيارات من نوع "جيب تليها أخرى مخصصة للعربات من نوع " جيمسي " كما يسمونها ، تليها مساحة أخرى مخصصة للمدافع الثقيلة ، وإذا التفت عن يساري أرى مساحة شاسعة مخصصة للطائرات من نوع " بنانة " وأخرى للهيلوكبتر ،ثم أخرى لطائرات الاستكشاف ،ثم أخرى للطائرات المقنبلة ……وهنا ترددت في نفسي وقلت : هذا غرور ! فماذا تفعل بنادق الصيد والميطريات والقنابل اليدوية التي يحملها المجاهدون مع هذه القوة الفتاكة ؟ ولكن قدرة الله فوق كل قوة .وطال بنا السفر في ذلك اليوم وغلب علينا العطش من شدة الحر فصبرنا على مضض ولكن للصبر حدود .وحينما توقف بنا القطار في ميناء الجزائر العاصمة ونزلنا من القطار وأحاطت بنا عساكر العدو وكلابها قد تساوي 
29






عددها ، ونظرت إلى زرقة البحر والبواخر الراسية فيها قلت : هذا ذهاب إلى ما وراء البحر .وفي لحظة من الأمل استرجعت ثقتي بالله ، وقلت : الله أكبر على من طغى وتجبر ووجدتني أردد قول الله عز وجل :( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )  ثم قلت في نفسي   ويعلم الله بما قلته في تلك اللحظة هذه أول مرة جئت فيها إلى الجزائر عبدا أسيرا، وسأزورها مرة أخرى حرا طليقا وكان كذلك . ثم سار بنا العدو في عربات من نوع "جيمسي" إلى بني مسوس ووصلنا عند الغروب حيث قضينا فيه أربعة أيام بلياليها .
وفي يوم الأربعاء 02/09/1960 سار بنا العدو مبكرا إلى معتقل :تيفشُّون " ومن ذلك الوقت لا أعرف عن الأستاذ عبد الحميد شيئا ولا يعرف هو عني شيئا . وبعد أكثر من عام زارني أحد الأصدقاء في المعتقل وأخبرني بما جرى وما يجري في الساحة التي نشأت فيها ، ثم أخبرني بأن الأستاذ عبد الحميد قد استشهد وفاضت روحه إلى بارئها ، فأظلمت الدنيا بين عيني ، وسالت عبراتي على وجنتي ، ثم تنفست الصعداء وكفكفت دمعي المهراق ، وتذكرت قول الأستاذ عبد الحميد : إن الثورة ستنتصر وإن الجزائر ستستقل لا محالة ،ولا أدري أتطول بي الحياة وأعيش حتى أرى الاستقلال أم استشهد ولا أرى الاستقلال ، وفعلا استشهد ولم يرى الاستقلال .
وهنا انقطعت جميع الاتصالات بيني وبين الأستاذ وإلى الأبد وعما قريب ستلتقي أرواحنا في البرزخ  ،ثم بعد ذلك تلتقي أبداننا في جنة  الخلد إن شاء الله تعالى. فرحم الله أستاذي ومرب روحي رحمه واسعة وأسكنه فسيح جناته ، ورحم الله كل شهيد كشف صدره لرصاص الاستعمار غير مبال بالموت من أجل أن تعيش الجزائر مستقلة  .والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار .
الشيخ القريشي رحمه الله
والده عمر بن القريشي بن المدني بن محمد بن القد يدي ولد سنة 1925 بدوار بن اذياب بالقرب من جبل يوسف .عرف اليتم وهو صغير حيث توفي والده وهو ابن عامين، فكفله عمه الشيخ الصحراوي ،وحرص على تربيته تربية صالحة فأودعه عند معلم القرآن بدوار بن اذياب الشيخ النواري عشاش فحفظ القرآن الكريم في سن العاشرة من عمره .وفي سنة 1942 انتقل إلى زاوية قجال ليتلقى أولى


30






دروسه في الفقه والنحو من الشيخ  المختار بن الشيخ . وبعد عام من الدراسة توفي الشيخ المختار بن الشيخ رحمه الله .
وتوقفت الدراسة بالزاوية ، فالتحق الطالب القريشي مدني بمسجد المحطة (أبي ذر الغفاري حاليا ) بمدينة سطيف ودرس فيه سنتين على يد كل من الشيخ  البشير السيحمدي والشيخ رابح بن مدور والشيخ محمد عادل رحمهم الله جميعا وفي السنة الثالثة جاءت ثورة الثامن من ماي 1945 فتوقفت الدراسة بمسجد المحطة أيضا فعاد إلى بيته ،ومكث فيه إلى أن دعاه سيدي محمد الصديق  للقيام بتعليم القرآن والقيام بالصلوات الخمس بالزاوية خلفا للشيخ الأخضر الحسناوي الذي تقدمت به السن . فلبي الشيخ القريشي مدني النداء وباشر عمله كمعلم للقرآن الكريم فكان معلما حازما جادا في تعليم الطلبة وإكسابهم قوة الحفظ ومهارة التلاوة وإتقان الرسم القرآني.فتخرج على يده العديد من الطلبة الحافظين لكتاب الله بجدارة واستحقاق .
 لما أنهى الأستاذ الشيخ سيدي عبد الحميد دراسته بتونس ، وعاد إلى أرض الوطن ،جمع حوله عدة طلاب من نواحي مختلفة . وصار يعلمهم  .كان الشيخ القريشي أبرز هؤلاء الطلبة ،وكان أكثرهم رغبة واجتهادا في طلب العلم وبقدر ما كان حريصا على طلب العلم كان أكثر حرصا على القيام بدوره في تعليم القرآن ،فكان كما يذكر زملاؤه ينتهز فرصة الليل ،ليعوض الطلبة ما فاتهم في النهار ،من الإملاء أو التصحيح أو الترتيل ، فإذا فرغ من ذلك بادر إلى مراجعة دروسه التي أخذها عن الأستاذ الشيخ سيدي عبد الحميد .و قد بارك الله تعالى له في جهده فتفقه في الدين وبرع في النحو العربي فغدا حبر المنطقة في الفتوى ومرجع الناس في إبرام عقودهم الشرعية وحل مسائلهم الفقهية ، وإصلاح ذات بينهم ، أما في علوم البلاغة والنحو فكان سيدها بلا منازع ومرجع المتخصصين فيها قبل المتعلمين ، وقد قامت بينه وبين كل أفراد عائلتنا بدءا من شيوخها وانتهاء بأطفالها كل وشائج المحبة والثقة والاحترام والتقدير فصار الشيخ القريشي كأنه واحد من أفراد العائلة يرافق سيدي محمد الصديق والأستاذ سيدي عبد الحميد في الحل          و الترحال  و تعرف على العلماء و جالس الأعيان فأكسبه ذلك أدبا رفيعا و علما غزيرا ، ومن العلماء الذين تشرف بمعرفتهم إمام الحرمين محمد العربي التباني  و الشيخ البشير الإبراهيمي      و الشيخ المسعود بن سالم وغيرهم .
في بداية الثورة الكبرى تعاون مع الأستاذ الشيخ عبد الحميد في جمع الأسلحة و التبرعات لفائدة الثورة وفي سنة 1956 ترك التعليم بالزاوية و التحق بالعمل الثوري فعمل عضوا في لجنة بن ذياب  و ألقى عليه الاستعمار القبض يوم 17/03/1960 وقد تعرض للتعذيب الشديد أثناء استنطاقه ومكث في سجن العلمة خمسة أشهر ونصف الشهر.


31






وبسبب نشاطه في السجن وإلقائه الخطب التحريضية على المساجين نفي رفقة عدد يفوق ثلاثمائة سجين إلى معتقل "تيفشون " الذي كان يعج بالنشاطات السياسية والثقافية والتعليمية ،وقد وجد الشيخ القريشي الفرصة السانحة في هذا المعتقل لمراجعة معارفه الفقهية واللغوية واستكمال دراسته وتعميق مفاهيمه ووعيه ، وذلك من خلال حضور العديد من حلقات العلم التي كان يقوم بها علماء أجلاء حكم عليهم العدو بالسجن .
وفي السجن لم يلقوا سلاحهم وإنما  استبدلوا البندقية والرصاص بالقلم والكلمة ،لمواجهة عدو لا يقل ضراوة وفتكا بالإنسان من الاستعمار ألا وهو الجهل والأمية .نذكر من هؤلاء العلماء الشيخ امقران بن مالك الأمام والمدرس الآن بمسجد أبي ذر الغفاري بسطيف . و في يوم  15/01/1961 أطلق سراحه، فرجع إلى العمل الثوري من جديد بتاريخ 24/10/1961 كمسؤول بدوار بن ذياب وبعد الاستقلال عاد الشيخ القريشي رحمه الله من الجهاد بالسلاح إلى الجهاد بالقلم و من دحرالاستعمار إلى محو الجهل .
لقد اختار لنفسه طريق أستاذه لم يكن يومها يحجزه عن الارتقاء في المناصب ،وطلب الدنيا والجاه شيء. كانت الأبواب أمامه مفتوحة ليكون فلانا أو فلانا الذي يأمر فيطاع وتقدم له الولاءات ولكنه رحمه الله فضل أن يجمع حوله عددا من أبناء الاستقلال المتعطشين لطلب العلم والمعرفة بنفس المكان الذي كان يدرس فيه أستاذه الشيخ عبد الحميد ليعلن بذلك عن استئناف مسيرة العلم بقجال، و قد بارك الله تعالى في تلك المجموعة لتصبح في بداية السنة الدراسية 1963/1964 مدرسة كاملة تضم العديد من الأقسام يدرس فيها عشرات الطلاب وقد تخرجت على يده أجيال من المعلمين والأساتذة الذين أسهموا مساهمة كبيرة في مد المؤسسات التربوية النظامية بشباب قوي العزيمة رفيع الأخلاق ،عربي اللسان .مغرم بحب بلده ،استطاع أن يعمر المدرسة الجزائرية من لاشيء .لم تقف في وجهه وعور الشعاب ولا مسالك الجبال ،ولا قر الشتاء ولا جوع الأيام والليالي بل كان يقهر كل ذلك ليصل إلى المدرسة أينما كانت ويؤدي واجبه في تربية وتعليم أبناء وطنه المفدى ،هذا عدا فقدان المرجع والوسيلة التربوية التي كان يكابد الأسفار ويبذل من ماله الخاص لتوفيرها من أجل إعطاء تلامذته تعليما أفضل وأرقى.
 هذا الجيل الذي كان له الفضل في بعث أول مدرسة جزائرية وطنية عربية اللسان إسلامية التوجه من أستاذه ومعلمه ؟ إنه الشيخ القريشي وأمثاله من طلبة الزوايا ،ومدارس جمعية العلماء بالأمس . بعد تقاعد الشيخ الأستاذ القريشي مدني رحمه الله ،بقي على العهد الذي عرف به قائما بدوره في الدعوى والإرشاد والتعليم والفتوى والإصلاح بين الناس على أكمل وجه .



 32






من المعروف أن صلاة العيدين بقجال انقطعت منذ التحاق الأستاذ الشهيد عبد الحميد بالجبل وبعد الاستقلال كان أول من استأنفها الشيخ القريشي بالمصلى المعتاد. وكان أول من قام بإمامة صلاة الجمعة بمسجد قجال سنة 1981  ودرس فيه الفقه لعدة سنوات .وفي مدينة سطيف ساهم في تكوين الأئمة ومعلمي القرآن بمسجد عبد الحميد بن باديس ،وكان له دور كبير في إرساء قواعد المسجد القريب من بيته  ودرس فيه النحو للعديد من خريجي الجامعة الإسلامية والشباب الراغب في التعلم  هذا هو الأستاذ الشيخ القريشي ، عاش طول حياته عفيف اللسان، لا يرد الإساءة بمثلها أبدا ، يحب العلماء ويتأسى بهم ، يحفظ أقوالهم ويستشهد بها ، ويوقر الكبار  ويداعب الصغار ، يحب الدعابة ويروي النكتة  يعشق الشعر ويحفظ منه لكبار الشعراء من أمثال البحتري والمتنبي وأبي فرا س الحمداني وغيرهم كان يحب أستاذه الشيخ عبد الحميد ويجله كثيرا في أخريات أيامه زرته عدة مرات وكنت كلما سألته عنه سقطت دموعه وخنقته العبرات ولا يسترسل في الحديث عنه إلا بعد مدة يكفكف فيها دموعه . فيذكر خصاله،ويعدد مناقبه ويدعو الله قائلا :اللهم اجمعني به في جنة الشهداء .
في اليوم الثاني من شهر فيفري من سنة ألفين انتقل الشيخ القريشي مدني إلى رحمة الله ،تاركا وراءه أجيالا من طلبة العلم ورجال التربية والتعليم  ،كلهم يدعو له فمن لم يدع له بلسانه يدعو له بما علمه .
الشيخ الخير رحال في ذمة الله
 " العلمـــاء ورثـــة الأنبيــاء "  حديث شريف
" لموت قبيلة أيسر عند الله من موت عالـم "  حديث شريف
"  إذا مات العالم ثـلم في الإسـلام ثـلمة لايـسدهـا إلا خلف منه " 
                                                            الإمـام عـليّ
لقد فقد قجال و سطيف والعلمة وكل الذين تعرفوا عليه  رحمه الله من قريب أو بعيد فقدوا بوفاته عالما جليلا ، ورجل عقيدة ومعلم فقه ، وتقيا ورعا ،ومصلحا اجتماعيا .إنه الشيخ الخير رحال  - رحمه الله عرَّف نفسه في خاتمة مصحف نسخه بيده على طريقة الأقدمين بقوله :
تم على يد ناسخه العبد الفقير الحقير المقر بالعجز والتقصير الراجي رحمة ربه القدير؛الخير بن عيسى بن العربي بن العلمي . الإبراهيمي دارا ،الزايدي مولـدا ،الأشعري اعتقادا المالكي مذهبا الجنيدي طريقة .لطف الله به وغفــرلــه .
هكذا قدم الشيخ الخير رحال رحمه الله نفسه للناس بروحانية العابد المفتقر إلى ربه الغني الحميد .الراجي عفوه ومغفرته . وقد كانت تلك هي السمة التي طبعت حياة الشيخ الخير منذ فجر شبابه إلى أن توفاه الله .



33






لقد كتب الله له عمرا مديدا تجاوز القرن ببضع سنوات (1894-2002) نحسب أنه حقق من خلاله الخيرين العظيمن خيرية طول العمر وخيرية حسن العمل لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :" خيركم من طال عمره وحسن عمله " .فلقد قضى عمره المديد خادما للعقيدة والفقه بكل جهد وإخلاص .
إن الشيخ الخير رحمه الله هو قطب من أقطاب مدرسة عريقة في الجهاد الثقافي من أجل بقاء هذه الأمة أمة عربية إسلامية على نهج القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقد أخذ شيخنا الجليل رحمه الله العلم من منابعه الصحيحة الصافية ؛من زاوية الشيخ الطيب قرقور (زاوية بن الكتفي) العارف بالله الفقيه الزاهد ،الصوام القوام ، التقي النقي المعطاء . الشيخ الطيب بن الكتفي هو  معلم  ومربي الشيخ الخير رحمهما الله هو معلمه الذي أحبه كل الحب وتشبع منه روح الإيمان والإخلاص لدينه وأمته ؛ حقا لقد أخذ الشيخ الخير عن شيخه علوم الفقه والعقيدة والعربية ولكن أكثر ما أخذ عنه الزهد والتقوى ، وخدمة الدين وبذل معارفه وعلومه لطلابه من أبناء الوطن بإخلاص وتفان . كم  كان الشيخ الخير -  رحمه الله يحدث طلبته وجلساءه عن شيخه؛ يحدثهم عن تقواه عن صلاحه وإخلاصه وحبه للعلم وبذله لطلابه وخدمة طلبة العلم تعليما وتهذيبا وإطعاما ومبيتا  ، حتى أنه كان يشتري لهم المصنفات التي يدرسون فيها .
كان الشيخ الخير -  رحمه الله يتحدث عن شيخه وكأنه يعايشه ويلاحق حركاته وسكناته ونطقه وصمته حتى لكأن من يستمع إليه يراه ؛ويواصل حديثه حتى تدمع عيناه ثم يقول :"إيه أولئك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ومضوا إلى ربهم . ويدعوا قائلا : اللهم انفعنا ببركتهم واجمعنا بهم في مستقر رحمتك ."
لقد أخذ الشيخ الخير قبسا من إخلاص شيخه لله تعالى في تعليم أبناء موطنه أحكام الشريعة الإسلامية واللغة العربية ،فسخر كل حياته في ذلك السبيل لا يألوا جهدا ولا يدخر وسعا  ولم يطلب من وراء ذلك إلا رضا الله تعالى .ولقد رأى الشيخ الطيب قرقور في تلميذه الشيخ الخير أثر علمه فيه فأحبه كثيرا وقدمه على زملائه ،وكلفه بالتعليم في زاويته في حياته ،وأوصاه ببذل العلم إخلاصا لله تعالى .فحفظ الشيخ الخير الوصية وعمل بها وتحمل رسالته خادما للعقيدة والفقه لوجه الله فلم يطلب بعلمه وتعليمه وظيفة ولا أجرة ولا منصبا ولا شهرة ؛كان دائما المقصود الذي يقصده المريدون للتفقه في الدين ،فيسعى إليهم بنفسه و يعطيهم من علمه ؛فلا يبخل عليهم بشيء مما علمه الله تعالى ،ولا يطلب مقابل ذلك أجرة ولا راتبا فإن أعطي رضي وإن لم يعط لم يسأل .
هذا هو الشيخ الخير رحال -  رحمه الله كان يبذل علمه للمتعلمين والعوام على السواء ؛ وإني أعرف رجالا أميين جالسوه في حلقات الدرس فظهر عليهم أثر علمه في أحاديثهم  وسلوكهم



34







هذا هو الشيخ الخير رحال رحمه الله لم يقف عطاؤه عند التعليم والتهذيب وإنما كان له عطاء آخر تجاوز الأفراد ليشمل الأمة ومستقبلها ،عطاء لله وللتاريخ ؛لقد بذل من فلذات كبده شابين من خيرة شباب الأمة ذكاء وصلاحا ،بذلهما في سبيل الله وتحريرا للوطن من ذل استعمار أطبق على الجزائر الغالية أكثر من قرن وثلث القرن ؛ لقد استشهد له شابان في ثورة نوفمبر 1954 هما الشهيدان : الطيب ومحمد-رحمهما الله  - فكان الشيخ الخير بهذا هو الباذل المعطاء بحق واستحق أن يسمى خير الباذلين .
هذا هو الشيخ الخير رحال  -  رحمه الله كان ابن مدرسة عريقة في الجهاد الثقافي التعليمي في بلادنا .مدرسة فقدنا بفقد شيوخها الكثير من قيم هذه الأمة ومبادئها ،فقدنا بفقدها المنعة النفسية والاجتماعية والصلابة في مواجهة الأعاصير و الخطوب .
إنها مدرسة الزوايا ،الزوايا التي كانت حصن الأمة المنيع الذي حفظ لها عقيدتها وشريعتها ولغتها العربية عبر الزمن .
إنها مدرسة الزوايا التي كانت ترفع عن الأمة أغلال الجهل وتزيح عن العيون غشا وات الضلال والكفر وتمدها  بمقومات شخصيتها ،وعناصر هويتها .وفيها يتكون رجال الأمة ومنها يتخرج علماؤها وأولياؤها الصالحون .
إنها مدرسة الزوايا التي لم يتخرج منها طلاب الدنيا بغير هدف  ولا جامعي الأموال بغير غاية ولا خزنة الذهب والدولار بغير إنفاق ، وإنما يتخرج منها طلاب الآخرة الذين يطلبون الآخرة بالدنيا ويسعون في الدنيا من أجل الآخرة .
إنها مدرسة الزوايا التي لم يتخرج منها يوما عبر تاريخها الطويل دعاة الفتنة في الدين ولا المتشدقون ،ولا المتفيقهون ، ولا دعاة تكفير المسلمين ،ولا المتعصبون ولا قتلة الأطفال  والنساء ولا أصحاب نظرية الاستحلال .وإنما يتخرج منها العلماء العاملون والدعاة الذين شعارهم دائما قول الله تعالى :" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين". ويتخرج منها المصلحون الاجتماعيون الذين شعارهم قول الله تعالى "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " .
إنها مدرسة الزوايا ،زوايا الرباط والمرابطة تلكم المدرسة التي تخرج منها الشيخ الخير رحالرحمه الله ومثَّلها طول حياته أصدق تمثيل ،سلوكا وعملا والتزاما ومعاملة . رحمه الله رحمة واسعة   
       
بسم الله الرحمن الرحيم
تهنئـــة


35






بمناسبة عيد الأضحى المبارك يتوجه طاقم موظفي مسجد عبد الله بن الزبير وأعضاء الجمعية الدينية إلى كل المؤمنين والمؤمنات بالتهاني المباركة والدعاء إلى الله تعالى أن يجعله عيد مليئا بالغفران والقبول ،وأن يوفقنا فيه إلى العمل الصالح ،وأن يعيده علينا باليمن والبركات وكل عام وأنتم بخير .
رسالة شكر وعرفان
يتوجه إمام مسجد عبد الله بن الزبير بقجال وأعضاء  الجمعية الدينية إلى كل السلطات الولائية والمحلية وعلى رأسهم السيد والي ولاية سطيف والسيد مدبر الشؤون الدينية والأوقاف والسيد رئيس دائرة قجال والسيد رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية قجال وسائر الموظفين بالولاية والدائرة والبلدية وأسلاك الأمن المختلفة بالشكر الجزيل والدعوات المباركة بالتوفيق والسداد على ماقدموه من خدمات لمسجد عبد الله بن الزبير حيث أصبح أول مسجد بدائرة قجال يتوفر على عقد ملكية تامة كما أصبح له أيضا جمعية معتمدة تشرف على بناء المسجد الجامع الجديد .
                               إمام المسجد :عبد السلام حمادوش



 
 36


















للتحميل نسخة من المجلة
الرابط





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق