الجمعة، 17 أبريل 2015

قجال يترنح / بين الإسلام التقليدي الصامت والأرثوذكسية المشاكسة


قجال يترنح :
بين الإسلام التقليدي الصامت  والأرثوذكسية المشاكسة .
بقلم :محمد الفاضل حمادوش.
 
 
 
 
             كان أهل قجال يرونه محور العالم ، و مركز الدنيا ، مكانة ليس لها مكافئ  وشهرةٌ طبقت الآفاق ، ومستودعُ الحسب والنسب ، ومعدن الطهر والنقاء.
 العلم اتخذه مسكناً ، والفقه اختاره موطناً ، زاويته شامة ٌ على جبينه
 وبطاقة هويةٍ وركن تعارفٍ ، وميناء حط فيه التاريخ رحله ، و أنزل فيه متاعه ،وأحماله .  التسامح فناؤهُ ، والكرمُ مدخله و باب من أبوابه ، غُيب و غُرب فلم تشنه غربة ، ولم يأسره ُ غياب، لأن ذخيرته الفكرية من الغناء بمكان،و أرشيف أعلامه لسانٌ ناطقٌ بالفصاحة و البيان ، و بيوتاته و أكابره في السؤدد  والمجد أفنان ، ومن الشجرة الطيبة غصنٌ ريان وفضلٌ من الحنان المنان.  
 لعل الصعوبة تكون شديدة جداً عالية السقف ، وعسرٌ يظهر فجأةً ، فيشل العقل ، ويحبس الخيال ويمسك اليد لما يهم الواحد منا أن يكتب مشاهداته  ويدون ملاحظاته ، ويصور ما يجود به الخيال وتطعمه العاطفة من صورٍ أو لوحات ، نابضة بالحياة ، تحاكي صور الحياة في هذه القرية الوادعة  وهذه المنطقة المسالمة ، التي أسكرتها العروبة و سحرها بيانها الأخاذ فعشقتها وتغزلت بها فكانت هي و الروح شيء واحد تسري في كيانها كما يجري الدم في عروقها ،حاجتها إليها في التعبير كحاجتها إلى الهواء في التنفس. وعجنها الإسلام فساغ شخصيتها على مثال ( مودال ) لا يتغير
ولا يتبدل فقط يتسع و ينمو و يتطور ويزدهر ويتألق ، لا يزيدها الاختلاط والاحتكاك إلا تميزاً وتفرداً و ترفعاً وتفوقاً.
 وقع التعريض بها ، و الحط من مكانتها وغمز سلوكها و تصرفاتها فلم يحملها ذلك على خفض قامتها و الخروج على كبريائها بل نظرت إلى كل ذلك بعين الزراية ، و أحسنت التصرف إزاؤه بعين الدراية . 
طبعاً لم تكن الحياة فيها قوية ٌ متدفقة ، أو متغيرةٌ متبدلة من حيثُ نمط العيش وأسلوبُ الإنتاج،والحراك الإجتماعي : صعود شرائح اجتماعية  و هبوط أخرى
 كانت هذه المنطقة كأغلب مناطق بلاد الجزائر في مأمن و منجى من الحوادث
 والوقائع ، التي يكون مصدرها الإنسان نتيجة شعور بالتحدي
أو توترات تنتاب العلاقات الاجتماعية لسبب من الأسباب ، فتدفعها لتعديل وضعيتها و التنفيس عن الاحتقان و يكون ذلك نتيجة الإبعاد ، أو التهميش  
أو الحيف أو الغبن أو جرح يصيب المعتقدات ، و يمس المخيلة ،أو فكرة خلاقة تطرأ فجأة فتفعل فعل السحر فيهم لما تنطوي عليه من رؤى ومشاريع تتأسس على معتقداتهم وأعرافهم وعاداتهم وعلى ما لا يتنافى مع منطقهم،وتصورهم ويعزفُ على أوتار آمالهم و طموحاتهم .
 الأشياء التي كانت تكسر الجمود،وتوقف الرتابة وتدخل شيئاً من الانتعاش والحبور على النفوس المنقبضة من أثر الملل و السأم والأجسام الواهنة الذابلة لأن نصيبها من الغذاء لا يتجاوز سد الرمق ، وإذا ما رمتها علة المرض فتترك لشأن القدر، هذه الأشياء هي : المواسم و الأعياد الدينية تُخرجهم من حال إلى حال ، و من جو إلى جو هي عبارة عن لحظات في عمر الزهور يفقون فيها أنهم آدميون ، و يتذكرون أنهم يتمتعون بالحياة
والحضور ويشعرون بالزمن وينتبهون إلى أن لهم ماضي و حاضر
ومستقبل، ويقعُ لهم شبه إدراك أن لهم امتداد في الماضي .
 غاية الأسف ، و مبلغ الأسى، أن الزمن والظروف والحيثيات تؤثر فيهم وتوجههم وتملي عليهم حاجات هي أقرب إلى الأعباء منها إلى الواجبات تقتلُ الفكر و الشعور و تجرئ على الاستهانة بالقيم و الاستخفاف بالمبادئ أما تأثيرهم و بصماتهم فيها _ الزمن ، الظروف ، الحيثيات ، _ فهي إلى الانعدام أقرب ، و إلى مفهوم التاريخ ومنطقه أغرب ، استقر في تفكيرهم ورسخ في كيانهم أن هذا فعل القدر ليس في مكنتهم دفعه ، ولا في وسعهم صرفه بل فقط حسبهم الانتظار حتى يرتفع من تلقاء نفسه .
نوازل وقوارع  اجتماعية ، وسياسية ،واقتصادية تحيق بالجماعة وتمسك بتلابيبها ، و تطرحها أرضاً بعد أن تمتص قوتها وتنهكها ، تتركها نهباً للجوارح والزواحف تمزق لحمها وتمتص دمها ؛ حوادث"8 ماي1945
وكثير قبلها ربما تكون أدهى و أمر أما بعدها فكانت الواقعة و ما أدراك ما الواقعة؟ " ثورة 54 " حدث ما يشبه المعاجز،وحصل مالا يتوقع حتى على مستوى الحلم والخيال ؛ فلم تنقرض هذه الجماعة كما انقرضت زواحف و أقوام يبتلعها العدم و تصبح أثراً بعد عين ، تنطمس حضارتها وتتفكك ثقافتها وتتحلل
و ينطفئ  نورها وتخبو جذوتها وتنسحبُ من ساحة النشاط و الإنتاج والإبداع الحضاري وتغدوا ثقافة أقوامية،أي ما تحت الوطنية نعم نقول بملء فمنا: أن هذا الجزء من الجماعة ، لا يختلف في شيء عن الجماعة برمتها أعني الشعب الجزائري على بكرة أبيه ،إلا اختلافات طفيفة ، كالاختلافات بين أفراد من أبٍ واحدٍ ، وأمٍ واحدة أو كتباين تضاريس الأرض،والمناخات في البلد الواحد ما يعني أن ما يجري على هذا الجزء من الجماعة يسري على الجماعة بأكملها ؛كل الأحداث الجسام ، والصدمات ، والكدمات ، وتقطيع الأوصال وعملية غسل الدماغ لم تفلح في فصل الجماعة عن تاريخها ومحو ثقافتها وتصفية ذاكرتها ، بل اختزنت كل هذا و أضافت إليه تجربة الاحتلال المرة في جوفها كما تختزن الأرض في غورها المياه ، والبترول وسائر المعادن الثمينة.
 وفي اليوم الموعود ، و الظرف المحلي المناسب ، والسياق التاريخي العالمي والفرص التي يوفرها ،اهتز الشعب الجزائري الأبي وانتفض لأن كهرباء الوعي لامست جسده،وانتقلت شرارتها إلى الجدار الصلد الذي كان يمنع عليه الرؤية ويحجزه عن الحركة فانهار الجدار وأصبح أنقاضاً، فأبصر الآفاق و هرول نحوها لا يلوي على شيء وأصبح يرى ذاته على غير ما كان يراها من قبل ، ويرى تاريخه مصدر فخرٍ واعتزاز ، ويرى ثقافته من الغنى ، و الخصوبة ، والتنوع . وما يشدُ الانتباه احتواؤها على النزعات العقلانية و الإنسانية ومرونتها التي لا تضاهى ، في انفتاحها
على الثقافات و الاستفادة مما يرد إليها منها و هضمه و تمثله بكفاية قل نظيرها ومن ثمة إعادة تشكلها حسب الوضعية الجديدة و حسب الحاجيات والمطالب المستجدة .
 انطوى عهد الحركة الوطنية و طور الثورة التحريرية بسرعة البرق لأن روح الإعتاق و التحرر ومشاعر الخلاص من الماضي البائس كانت أقوى من الدم و الموت و أقوى من المتاعب و المشاق ، بل أقوى من الزمن.
 ولد الشعب الجزائري من جديد بل بعث من القبور.
وأولُ شيء فكر فيه و انشغل به استعادة اللغة العربية مكانتها فأقبل على تعلمها برغبة جارفة. ولم ينتظر الدولة أو النظام السياسي لكي يقوم بذلك. بادر المجتمع الأهلي لبناء المدارس وجلب الأساتذة من المشرق العربي من خلال جمع التبرعات ، و كان النشاط موفقاً والنجاح باهراً .
 و كان قجال بيتُ العلم و الرجال ، من أبرز مناطق الجزائر في هذا الميدان بل الرائد في هذا المضمار والرائدُ لا يكذبُ أهله ولا ينقض عهده:  رئةُ مدينة سطيف وذاكرته ، و بصرهُ الذي يبصرُ به ؛ الفاتحون الأولون مروا به وأحفاد آل البيت استقروا به.
منه يبدأ تاريخ سطيف و فيه ينتهي ، مقصدُ الأولياء ، و مزارُ العلماء
وبغيةُ المحتاجين والفقراء .
كان قجال مرتاح البال مطمئن النفس لفهمه للإسلام و تعقله له في إطار  المذهب المالكي ،و العقيدة الأشعرية ، و تصوفُ الجنيد السالك .
ولا ينظر بعين الريبة إلى من يخالفه في المذهب الفقهي أو الكلامي ولا يتحرج ممن يخالفه في الملة .
 و كان بالفطرة يبتعد عن أدلجة الدين، وحصره في خانة السياسة؛الشيء الذي حفظ الدين من الانتهاك،وقداسته من الاختراق والتلاعب والاستغلال.
 وحصَّن المعرفة به والإحاطة بعلومه باشتراط شروط قاسية بنحو لا يستطيع كل من هب و دب أن ينفذ إلى هذه القلعة الحصينة ،ويديرها حيث يزعم أنه أحق بالإمامة ، أو الفتيا أو التدريس.
 أما حقل الدعوة فقد كان في عزة و منعة لا يطرقه إلا من أوتي زيادة عقل و جودة فهم و نضج نفس ونبل عاطفة،وعمق رصيد في التجربة والخبرة و سلامة ماض ، و طهر ذيل، و إجازة شيوخ .
كلُ هذا و غيره انقلب رأساً على عقب ، على حين غرة وكأن الأمر كان يبيتُ بليل لأمرٍ يُراد .
 برز نمطٌ من المعقولية و الفهم للدين الإسلامي أعوج أعرج أينما وجهته لا يأتي بخير ، و استبيح حقلُ الدعوة فتدثر بالسوء و لحقه الحيف والغبن و ارتدى عمامة التمويه وعلق لحية المكر والخديعة هي إلى المخلاة أقرب منها إلى لحية الهيبة والوقار التي ندبت السنة المطهرة إلى الالتحاء بها .
 إنها الحركات التمامية التي اختزلت الدين و ( الإسلام  ) في الطقوس     والشعائر، وأصرت على أن تجعله سيفاً أو بندقيةً تقاتل بهما المسلمين لتخرجهم من الشرك و تنتزع بهما السياسة من فضائهم وتقتل بهما العقلانية والنزعة الإنسانية والتسامح والمدنية ولكن هيهات هيهات .......

يتبع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق